-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

انترنت : بين «تخمتين».. المعرفة والتفاهة!!

الباحث :  جعفر حمزة
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 13 / 2019
عدد زيارات البحث :  827
كيف نتبع نظاماً «صحّيّاً» للتكوين المعرفيّ بعيداً عن جاذبية «التفاهة»؟

كانت المعرفة «عُملة صعبة» لا يُلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيم، إما بخوض غمارها عبر «التجربة» للظفر بنتاجها، وإما من خلال «النقل»، لتكون المعرفة بين يدي الناس مُقدّمة على طَبَقٍ من «ورق»  في الكتب.
وما بين التجربة والنقل تنكمش المسافة مع الوقت، لتكون هناك محطة ثالثة هي «المعايشة والتفاعل» من خلال قنوات تنقل تلك المعرفة بسرعة الضوء؛ لتكون بين أيدينا صورة وصوتاً عبر «الهاتف الذكي».
هذه المحطة الثالثة وفّرت المعرفة بأبيضها وأسودها لكلّ الناس، وأخفت عاملَي المكان والزمان، ولم يصبح ثمّة فارق جغرافيّ أو وقتيّ أو لغويّ بين كلّ شعوب الكرة الأرضيّة، وبمقدار ما يُفترض «عقلاً»  أن يعزّز ذلك من فهم ووعي ورفع مستوى التقارب بين الشعوب، فقد أجّجت الصراعات، ورفعت منسوب الفوارق بينها!

فما بين نشر المعرفة وصنع التفاهة تكون المسافة الفاصلة بين صنع البياض واستنشاق السواد، وما القنوات المتولّدة من تفتّق العقل البشريّ لأجل التشبيك بين بني البشر، إلا وسائط لا يمكن مساءلتها أخلاقيّاً، فهي كما الطريق السريع مشاع للمخترع المتوجّه لمختبره لأجل خير البشريّة،  وللفاسد- أيضاً- الذي يعمل على حرف بوصلة الضمير البشريّ السليم نحو سواده، ليزداد الأمر سوءاً في صحّة أو أمن أو فكر.

إننا نعيش عصر «التُخمتين» بامتياز قلّ نظيره..
تُخمة المعرفة، بكلّ ما تنتجه وتُشكّله وتقدّمه لنا بصور شتّى، حتى بات أمر اللحاق بكلّ ما هو جديد وبتفاصيله والإحاطة به كمن يلحق سراباً، وبات ذلك من حتميّات هذا العصر، كما يذكرها المؤلّف «كيفن كيللي» في كتابه «الحتميّات: 12 قوّة تقنية تشكّل مستقبلنا».
فلا غرو بأنّ التخمة المعرفيّة تتضخّم بشكل لم يمرّ على البشريّة مثلها من قبل، وتتأتّى من خلال ثلاثيّة تُشكّل هذا الكمّ الكبير من المعلومات، وفي الوقت ذاته بسهولة كبيرة، وذلك عبر:
1. الوفرة المعرفية من مصادر عدّة، حتى بات الفرد العاديّ مُساهماً في تكوين المعرفة، ولا أدلَّ على ذلك من تجربة ويكيبيديا، فالناس يصنعون المعرفة، ويتشاركون فيها، لذا فإنّ حجم التراكم المعلوماتيّ يزداد بشكلٍ مضطرد.
وقد وصلنا لمرحلة «المستهلك-المنتج» Prosumer، إذ يمكن للمستهلك أن يكون مُنتِجَاً في الوقت ذاته، أقلّها في صناعة المحتوى الذي يكون جزءاً منها من خلال تقديم خبر أو كتابة نصّ أو إخراج صورة وعدّد ما شئت.
2. التصنيف البحثيّ، التي تلعب اللوغاريثمات دوراً جوهريّاً فيه، فأصبح كل ما حولنا مرقّماً ومُصنّفاً، لغاية فهم سلوك الفرد ورسم خارطة طريق لتفاعلاته وتوجّهاته الرقميّة وما بعدها.
3. محرّكات البحث التي تمثّل واجهة «المتلقّي»، حيث يجد ضالّته فيها، وما «غوغل» إلا الصورة الأبرز لثورة حقيقيّة لانفجار المعرفة وتركها «مشاعاً» لكلّ الناس.
وثمّة تُخمة التفاهة التي تأخذ مساحتها ولها جمهورها، وتتّسع أو تضيق بمقدار تقبّلنا لها وتفاعلنا معها أو عدمهما، بل أصبحت التفاهة تتشكّل، ويتم صناعتها بشكل ذكي من المعرفة نفسها بالاستعانة بتقنياتها لإنتاج التفاهة ونشرها.
ونتيجة الميل لهذه التفاهة، وبغض النظر عن الأسباب، فقد تحولت إلى صناعة قائمة بذاتها، تُخرّج نماذجَ يُدفع لهم من عُملة جديدة؛ ليكون الرهان عليها في استمرار هذه الصناعة، وتلك العملة هي «الوقت»، فبمقدار ما يتكدّس الجمهور حول «تفاهة» ما ويهبها وقته، ترتفع قيمتها السوقيّة ويزداد عليها الطلب، ويُدفع لأصحابها الأموال للتسويق والترويج لهذه الشركة أو لذلك المنتج.

(يمكن قراءة مقال «وقتي، لِمَنْ؟.. العملة الأكثر قيمة ومعادلة التسويق الأكثر تأثيراً، من موقع الكاتب
www.jaafar-hamza.com
إن الجاذبية التي تملكها «التفاهة» كبيرة، فصناعتها سهلة ومُيسرة؛ لضحالة المحتوى المطلوب، ونشرها أسهل مما يُتصور، والتفاعل معها لا يتوقّف، فلها جمهور واسع ويكبر مع الوقت، فالتفاهة مرآة لكلّ ذلك الثقل الذي نستأنس به ولا نريد أن نُنزله عن كاهلنا، كمثل المدمن الذي لا يكفّ عن التعاطي وإن أدرك خطره، ولا تحتاج لإعمال فكر فيها، فهي سهلة المضغ والنشر، وذلك من بعض أسباب جاذبيّتها.
إن حجم ما نستغرقه في «التفريغ» والتنفيس والتعبير أكثر بكثير مما نستغرقه في «الشحن» المعرفيّ، وهذا ما يجعل أكثر نتاجنا المعرفيّ، الفكريّ منه والبصريّ، ضحلاً لا يرقى لأن يكون مبتكراً، فضلاً عن إضافته النوعيّة، على الرغم من توفّر المعرفة بأنواعها المختلفة، وأبرزها وأقواها «الإنترنت»، الذي حوّلنا في سواده الأعظم لساحات صراع و»مكبّ نفايات»، وكلّ شيء، إلّا من كونه مساحة ابتكار وإنتاج حقيقيّين في الغالب الأعمّ.

 وما بين التخمتين، لا خيار سوى المعرفة؛ لذا لا بدّ من انتهاج أسلوب يُغني معرفيّاً من خلال اتباع خطوات واضحة وبسيطة ومركّزة، يمكن تلخيصها بالآتي:
1. انتخاب بحر المعرفة التي تودّ خوض غماره، وذلك بناء على «رغبة أو حاجة أو رسالة» تدفعك إليه.
2. العودة إلى مراجع تلك المعرفة من مراكز أبحاث أو مؤلّفين أو مواقع ذات صفة اعتباريّة ومصداقيّة.
3. عرض الآراء المتنوّعة، وإعمال العقل فيها، وانتخاب ما تراه مناسباً مع المرونة في التغيير إذا لزم الأمر.
4. التفريغ يكون بعد شحن كافٍ، بل وابتكار فيه، وهو الأفضل، وطرحه يكون لزيادة منسوب المعرفة وتداولها.
5. توثيق هذا التفريغ عبر مدوّنات أو مواقع إلكترونيّة بهدف إثراء المحتوى الإيجابيّ، فضلاً عن نشرها في قنوات التواصل المختلفة، لتأخذ حيّزها من هذه القنوات، وليكون حضورها كمّاً وكيفاً، وتحجز مقعداً في مسرح الحياة اليوميّ.
أصبح جزء كبير من المعرفة مجانيّاً، أو عبر اشتراكات بدراهم معدودة قِبال ما يتم تقديمه، ما يتيح لعشّاق المعرفة استخدام عديد من الأدوات لنشر رسالتهم وبسطها بأجمل السبُل، ومن بين تلك التطبيقات والمواقع على سبيل المثال:  Udemy وUdacity  وموقع Lynda، فضلاً عن منصّات يتفتّق الذهن لها استماعاً وتفاعلاً، مثل: مشروع  TED.com.
إنّ بحر المعرفة أصبح يتوسّع ويتضخّم، فقد باتت كلّ العلوم بين يديك، إذ يمكنك تعلّم أيّ مهارة أو اكتسابها بسهولة تامّة، وما علينا القيام به هي محاولة البقاء في ساحة المعرفة والعمل فيها، والامتناع عن دائرة التفاهة التي تتمتع بجاذبيّة كبيرة في أساليب التقديم والتشويق، وهي أُسّ تحوّل المجتمعات، وبناء عليه تتشكّل ملامح المجتمع، وتتبيّن خارطة طريقه، بإنتاج مستمرّ أو إسفاف منغمر.