-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

أدب و فن : المسرح في خدمة الهوية الثقافية

الباحث :  مريم ميرزاده
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  3
السنة :  السنة الأولى -صيف2018 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  448
هكذا كان المسرح مذ تأسّسَ عند الإغريق والرومان والفرس، آخذاً في الإنتشار، مفتعِلاً كمّاً من الإثارة والدهشة تجاه هذه المساحة المتناسقة بمدرجاتها وستائرها وسقفها وأحياناً فضائها المفتوح على السماء، من أجل عرضِ فكرةٍ وتسليط الضوء عليها، مسهِماً في زيادة الوعي العام حولها، أو لتضخيمِ مشكلةٍ لا تستطيعُ سبلُ التعبيرِ الصريحة والفنون الأخرى التعبير عنها بما يوفّرُ الحدودَ السليمةَ والسلميّةَ بين المجتمعات والسلطات السياسية والدينية. 
تارةً ملهاةٌ، تارةً مأساةٌ، تراجيديا أو كوميديا أو عرضٌ لملحمةٍ شعرية، لطالما كان المسرحُ من أقوى أشكال الفنون التعبيرية التي تتوالمُ فيها شتى عناصر الإبداع كتابةً وشعراً وموسيقى وتمثيلاً وإخراجاً. 
يلتقي في صالةِ المسرحِ هواةُ القصيدة والرواية والملحمة والتمثيل والرقص المسرحي والتاريخ واللغات والرسم والنحت والتصوير والقصص على أنواعها الأدبية. فيتمخّضُ هذا الملتقى الثقافي بامتياز، عن حدَثٍ فنّيٍ كبير، فيه تبادلٌ متعدد الأطراف للثقافات والرؤى المختلفة لزوايا الفنون المعروضة كافةً. 
يقولُ أرسطو إن لدى الناس منذ الطفولة غريزة التشخيص ومن هذه الناحية يختلف الإنسان عن الحيوان في أنه أكثر قدرة على المحاكاة وأنه يتعلم دروسه عن طريق تشخيص الأشياء. إن للإنسان غريزة التمثيل منذ الصغر، إن المتعة أواللذة التي نحصل عليها من هذه العملية هي تحول الحياة إلى مسرح ومن هنا ينبع المسرح... من أصل الإنسان... من رغبته الفطريّة في التّجسيد... من خياله الواسع الذي هو أصل الحياة... من الحياة نفسها. أرسطو الذي يتأمّلُ وجهَ هوميروس في زيتيّةِ رامبرانت الشهير متسائلاً عن النسيج الشعري الذي تفرّد باكتشافه وعن حقيقة الإلياذة والأوديسة. 
ألم تكن «مأساة الحلّاج» أقوى تجسيدٍ في زمانه لدور المسرح في صياغة الرأي العام وصقل الثقافة وبلورة الأفكار عبر استعراضٍ شعريٍّ للتاريخ؟ وإذا كان التاريخُ مادةً صلبةً لا يستسيغها كثيرون، إلا أنّ الشعرَ والموسيقى والصورة الممثلة لتراجيديا حقيقية حدثت في ذاتِ يوم، تجعل من التاريخ موضوعاً جذاباً يقدّمُ للمتلقي بأفضل الطرق وأكثرها إبداعاً. ربما بدأت المسرحية على هيئة الشعر أولاً. حيث بدأ أحمد شوقي بكتابة المسرحية الشعرية، وكان صلاح عبد الصبور من رواد المسرحية الشعرية العربية، حيث كان ذلك بعد مرحلة الشعر الجديد الحر، الذي عاصرته به نازك الملائكة، بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. ومن بين مسرحياته الشعرية الخمس، اشتهرت لعبد الصبور «مأساة الحلاج»، أشهر أعماله. 
لا شيء يؤدي إلى انحطاط المسرح مثلما تفعل ممارسات قمع الحريات، أو محاولات السيطرة عليه أو توجيهه كما ترغبُ السياسات والأيديولوجيات وكما يشاءُ المستأثرونَ بالرأي من أصحاب السلطة والمنصب. أو كما ترغب التياراتُ والأحزابُ في جماعةٍ ما، أو كما يشاءُ مخرجٌ متملّق. 
المسرح الذي حاربته الكنيسةُ خلال القرون الوسطى في الإمبراطورية الرومانية، بذريعةِ ارتباطه التاريخي بالأوهام الشعبية والطقوس الخرافية وأحــــــياناً الحفلات الماجنة التي يتم عرضها وتداولها بين الناس، عادَ محطَّ اهتمام رجال الكنيسة بُعَيدَ سقوط الإمبراطورية الرومانية. هذه المرة من أجلِ إعلاء حضور الكنيسة بين الناس. صار المسرحُ في هذه المرحلةِ منبراً لإحقاق سلطة الدين وتلقين الدلالات المستمدة من الكتاب المقدّس وممارسات الأعياد الدينية لمجموعةٍ من العوام الجاهزين للتلقّي. كان المسرح هنا، كما في كل حالاته، مصدراً آسراً للمعرفة، بفعل عاملِ التشخيص والتصوير المقرون بالموسيقى. فكيف إذا كان المؤدي من ذاتِ طاقم الكهنوت، والمسرحُ ذاتَ حرَمِ الكنيسة نفسها. الدور الأشهر تمثيلياً في مرحلة ازدهار المسرح هذه، كان آلام صلب المسيح، ثم مسرحيات الإصلاح البروتستانتي بعد ذلك، والمعارضة الكاثوليكية لحركة الإصلاح. 
ثم كانت للمسرحِ خلال القرن الثالث عشر، حصّتُه من النهضة الثقافية التي طرأت على أوروبا الغربية بعَيدَ الحروب التي خاضتها مع الشعوب الشرقية والشمالية وما حملته من غنىً ثقافي جديدٍ نوعياً لا سيما من الشرق البيزنطي الإسلامي. حتى أخذ التبادل الثقافي والفني بين جاليات الفنانين البيزنطيين والغرب يزدهر وتزدهر معه الأدوات والعناصر. وصولاً إلى أن تداخلت في النقش الروماني القديم، فسيفساء البندقية، والعمارة السورية والأناضولية والفارسية لاحقاً. 
لعب الدّير في هذه الحقبة، الدور البارز في الحفاظ على الفنون والنقوش واحتضانها، رغم أنّه يميل بطبعه إلى حفظ الموروث وليس يوفّر الميدان المطلوب للخَلقِ والإبتكار أو التجدّد. 
ولكن أين المسرح اليوم؟ أسألُ نفسي وأنا أبحثُ عمّا يمكنني أن أجده خلف الستارة من ألغازٍ تثيرُ فيّ بعضاً من دهشةِ العرض الأخير الذي حصلتُ عليه لشكسبير. ثم يبعثُ فيّ الخيبة كلما شخصَ أمامي قتالُ عطَيل المغربي وكاسيو البندقي حول ديدمونة. وكيف أننا لا زلنا نحصل على جرعةٍ من الدهشة كلما حضرنا عرضاً لتلك القصص، دون أن نسعى لكتابة ما يشبهها تمثيلياً. أقولُ هل تنقصنا الروايات والقصص؟ أم أننا اكتفينا بها قصصاً وروايات. واحتكرت السينما الدور التمثيلي بعيداً عن «حقيقية» المسرح و مصداقيّة ممثلي الخشبة. 
 ملحمة رستم وسهراب في شاهنامة الفردوسي، وأسطورة الأب زال التي تحوّلت لعظمتها في خاطر التاريخ إلى تماثيل رخامية يقبل على شرائها السوّاحُ إلى ضريح الشاعر الإيراني في طوس، والتي تحولت الیوم إلى أغنياتٍ وقصص تعلّم حتى للأطفال. أنعزوها حصراً إلى الأسطورة المكتوبة؟ أم أنّ جزءاً من خلودها كان تمثيلها ورسم شخصياتها في جدران المتاحف في المدن المختلفة؟ هل تفي مسارح اليوم بالغرض الذي نشأت لأجله؟ بل هل لها الأثرُ الآسرُ والحضور الفاعل الذي كان؟ أين المسرح العربي هنا؟ ما هويّته؟ هل لازلنا نتحدث سنواتٍ عن مسرحيةٍ سبق وذهبنا على أقدامنا يوماً لحضورها فكان لها أثرٌ عميق في ضمائرنا؟ هل تُكتَبُ مسرحياتُ اليومِ في مجلداتٍ يوماً ما في المستقبلِ البعيد؟ هل تؤرّخ؟ هل تقارب الخلود؟ 
الإجابةُ تكون أوضح بعد محاولاتٍ موضوعيةٍ لإماطة اللثام عن الصيرورة التاريخية لواقع الفن التمثيلي، وآثار الحداثة والتطور وما أرادته وتريده لنا الثقافات التي نستوردها بانبهار وتمسي هي انطلاقتَنا ومرجعنا الطليعي في التمثيل والتصوير. لا شكّ أنّ انطلاقةً مسرحيةً أو فنيةً عموماً متأثرةً بالسرعة والأرقام وشبكات التواصل الإجتماعي والإنترنت والكم الهائل من المعلومات المتداخلة السريعة والراحة والتسلية العالية التي توفرها طريقة المطالعة الإلكترونية، لا تكون انطلاقةً تسلّط الضوء على حقيقةِ شعبٍ ما وحضارته. لعلها على الأرجح عرضٌ ضائعٌ تاهَ منذ عقودٍ عن مساره الحقيقي، فتشتّتَ وأخذت الشوائبُ تضافُ إليه خلال مسيرته من كلّ حدبٍ وصوب. لعلّ ما نذهب لمشاهدته في الصالات ذات الستائر الحمراء، شكلٌ مختصرٌ سهلُ الهضمِ خفيف الأثر، من فنٍّ كاملٍ متكاملٍ أصيل، كان منذ آلاف السنين، يقدّمُ للبشريةِ عراقةَ شعوبنا وحضارةَ جذورنا. فكيف السبيلُ إلى حفظ جذوة الخَلقِ والإبداع لدى الشاب المسلم عموماً، والعربي خصوصاً، من التفتّت الثقافي المحتوم الملازم لصيرورة عصر السرعة، ومن التشتت المترتّب على استيراد كمياتٍ مجنونةٍ من المعلومات بصيغةٍ غير مدروسة على الأغلب؟ 
مما لا ريبَ فيه، بأنّ الإبداعَ في مجتمعنا ليس محصوراً ضمنَ حيّزٍ فنيٍّ دون آخر، وكما أنّنا نشهدُ احتفاءً شاملاً بأدبياتِ النهوض والثورة ومقاومة الإستعمار الثقافي ومعاركه الباردة في الجبهات الاجتماعية والثقافية، من قصةٍ وروايةٍ وقصيدةٍ ولوحةٍ وموسيقى، فإنّ ما لا يغيبُ عن خاطرنا، هو عظمة ما قد تلعبُه مسارحُنا من دورٍ تاريخيٍّ فاعلٍ في خطّ الرسالة التي يحملها دينُنا-هويّتُنا وتقديم ملامحه الحقيقية بأبهى الصور من خلال فنّ الستارة الحمراء. هذا الدور الذي لا يقلُّ سحراً وتأثيراً عن مسرحيات التاريخ الملحميّة.