-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تربية : الاختصاص الجامعي : إحتار ولا تختار

الباحث :  فرح الحاج دياب
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  2
السنة :  السنة الاولى - ربيع 2018 / 1439هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 28 / 2018
عدد زيارات البحث :  5744
ما زال طلّاب شهادة الثانوية العامة يرمون قبّعات التخرّج، ثم يرتمون في أحضان الحيرة باحثين عن اختصاصٍ جامعيٍّ يليق بطموحاتهم أمام واقعٍ صعب يحكم خياراتهم. هكذا يتأرجح الخرّيجون بين ما يحلمون به، وبين الظروف العصيبة، المكللة بتقصير كبير من جهة الدولة التي تُهمل إجراء دراساتٍ منهجيةٍ عن احتياجات السوق الفعلية، في ظل قصور كبير في التوجيه العلمي في معظم الدول العربية. إذ يبدو أنّه هو نفسه بحاجة إلى من يوجهه، على الرغم من توافر فرص التعلّم والإقبال الكبيرعليه.
مدير المركز الإسلامي للتوجيه: «العربة قبل الحصان».
يبدو أنّ الدّراسات المنهجيّة عن حاجات سوق العمل تغيب تمامًا في دول المنطقة، حيث التوجيه الذي تقوم به المراكز يراعي ميول الطلّاب وقدراتهم ورغباتهم، لكنّه لا يراعي متطلبات سوق العمل، كما يؤكّد مدير المركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي الدكتور علي زلزلة، ويضيف: «عمليّة التوجيه في منطقتنا تعتمد على القراءة العمليّة للواقع، في ظل غياب الدراسات والأرقام، حيث يُنظر إلى كل اختصاصٍ نظرةً شاملةً يتم إسقاطها على احتياجات السوق».
هل من اختصاصات صحيحة في مسارٍ اقتصاديٍ خاطئ؟
الدول العربيّة تشبه مجموعةً من الأمهات المستهترات اللواتي يقضين يومهن مُجتمعاتٍ حول التنور، يرتشفن القهوة المرّة، وكلٌّ تغتاب الأخرى، فيما أولادهن وأبناؤهن تائهون لا أحد يمنّ عليهم ولو بنصيحةٍ صغيرةٍ قد تغيّر مستقبلهم.
«ربّما قد آن الأوان لأن تغيّر الدولة عقليّتها، من أجل تحقيق التنمية المستدامة»، هذا ما يقوله زلزلة، ويضيف: «إنّ رسم خارطة الطّريق وفق الدّراسات هو أمر مُلحٌّ جدًا، ولكنّه يحتاج إلى استراتيجياتٍ وتخطيطٍ اقتصاديٍ وتربويٍ ورؤيةٍ من قبل الدولة للموضوع، إذ إنّ الأنظمة القائمة على مبدأ الخدمات لا تشجع القطاعات الأخرى»، ويحيل سبب ذلك إلى الأنظمة الحرة غير الخاضعة لقوانين أو تشريعات تحمي القطاعين الصناعي والتجاري.
وعلى الرغم من ظهور عدّة اختصاصاتٍ جديدة، ما زالت أوّل الاختصاصات التي تستحوذ على ذهنيّة الطلّاب هي الطب والهندسة، فهي تمنح مرتاديها قيمةً اجتماعيّةً مضافةً كما يظنون، في حين يكون طالب الطب طابةً تتقاذفها المواد الصّعبة التي لا جلد ولا اهتمام حقيقي له بدرسها، وطالب الهندسة الذي تُهندَس حياته على مقاسات أمه وجاراتها، يتفاخر أمامهن ويندب من ورائهن، تمامًا كما يحصل مع الطالب أحمد المصري الذي يدرس طب الأسنان في الجامعة اللبنانيّة ليصير طبيبًا كوالده، «أعرف أنّه لدي القدرة على نيل الشهادة، ولكن طب الأسنان لم يكن شغفي.. أحاول أن أقنع نفسي به، خاصةً حين أدخل عيادة أبي فأراها مكتظةً بالمرضى بينما لا يجد أصدقائي أي فرصة عمل، وأتساءل دائمًا، من كان سيرث عيادة والدي ومعدّاته وأجهزته وسمعته في حال لم أكن طبيبًا».
بعد الطب والهندسة تأتي الاختصاصات المتعلّقة بإدارة الأعمال والمصارف ورؤوس الأموال وإدارة الشّركات، والتي روّجت لها الشركات المتعددة الجنسيات، ويتّجه معظم الطلاب نحوها دون أن يعرفوا مقدار التخمة في هذا القطاع وحاجاته الحقيقية، هذا ما يؤكدّه الشاب محمد الوجيه المتخرّج من كليّة إدارة الأعمال في جامعة القاهرة: «كنت أظن أنني بشهادتي سأدير شركةً ما، لم أكن أعلم أن كل ما سأديره هو مطبخ «مطعم الخال»»، تظهر ضحكة محمد الساخرة محمّلةً بالقهر، يواسي نفسه: «لا بأس، في النهاية لا فرق بين الأوراق والأواني».
خيارات الطلبة: العين بصيرة واليد قصيرة!
صحيح أن هامش اختيار الأهل لاختصاصات أبنائهم بدأ يضيق، وباتت فسحة الاختيار رحبةً أمام الخرّيجين والخرّيجات، كما يؤكّد زلزلة، «إلّا أنّ الأمر لا يخلو من التأثير النسبي، ومحاولات التوجيه الحثيثة ليسير الأبناء في الدروب التي يتفاخر بها الآباء أمام جيرانهم وأقاربهم»، مستندًا إلى دراسة أجراها مركز التوجيه، خلُصت فيها النتائج إلى أنّ «80% من الطلّاب اختاروا اختصاصاتهم التي يريدونها دون أي تأثير من الأهل، بينما 20% فقط التزموا بقرار الأهل»، من بين هؤلاء الطالبة لمار يونس: «منذ صغري يقول أبي أنه عليّ أن أصير مذيعةً، فهو يعتقد أن كل ما يتطلبه الأمر وجه جميل، اليوم وأنا في سنتي الدراسية الثانية، أجد نفسي عاجزةً تمامًا عن إتمام حلمه الوردي».
موضة الاختصاص!
عدم تمكن الكثيرين من دراسة ما يريدونه يدفعهم إلى التوجه نحو اختصاصاتٍ محددةٍ دون تفكير مسبق وبطريقةٍ ارتجاليةٍ تبعًا للفورات التي تحصل بين الحين والآخر، وحسب «موضة الاختصاص» الدارجة، فتارةً تجد أنّ الجميع قرروا أن يصيروا «محامين»، وتارةً تجدهم أصبحوا مهندسين... وما بالك بعدد الإعلاميات والإعلاميين المستقبليين! هذه الفورات هي ما تولّد مزاحمةً تظهر عواقبها لاحقًا من خلال العدد الهائل من المتخرّجين نسبةً إلى متطلبات سوق العمل...
بين الجامعة الوطنيّة والجامعة الخاصة
وكما يولد الأغنياء وبين أصابعهم أقلامٌ من ذهب، يولد الفقراء وبين أصابعهم أقلامٌ من الخشب تأكل من تشققات أيادي أهاليهم، فتكون الجامعة الوطنية خيارهم الوحيد – والتي لا شك أنّها ذات مستوًى مرموق – إلّا أنّ المعضلة تبدأ من عدم انتشار كلّياتها في جميع المناطق، هذا ما تؤكّدة رانيا القاق التي تسكن في ضواحي البلد: «أحرزت معدّل 17 في شهادة الثانوية العامة، كنت أحلم أن أدرس الصيدلة، لكنّ عائلتي لم تكن قادرةً على دفع تكاليف انتقالي إلى العاصمة بين سكنٍ ومواصلاتٍ وغيرها... هذا عدا عن قلقها إزاء عيشي لوحدي هناك... إذ يبدو الأمر منافيًا للعادات والتقاليد، وفي الوقت عينه، لم تكن قادرةً على دفع تكاليف التحاقي بجامعة خاصة قريبة من منزلنا... الأقساط مرتفعة جدًا».
إلى جانب الأوضاع المعيشيّة الصعبة، يعتبر نقص الفيتامين «و» – واسطة – مشكلةً أخرى تحول دون انضمام الكثيرين إلى قافلة الاختصاص الذي يريدون، فلا يخفى على أحد أنّ الالتحاق ببعض كلّيات الجامعة الوطنية يحتاج إلى «هاتف من فوق»، خاصةً في تلك التي لا تستقبل إلّا عددًا محدودًا من الطلبة، وفق ما يؤكّد الشاب فؤاد كريم، «كل كلّيةٍ تابعةٌ لحزبٍ ما أو تيارٍ سياسيٍ معيّن، والواسطة تأخذ مجدها في امتحانات الدخول وعلى عينك يا تاجر».
«أراد هتلر أن يلتحق بأكاديميّة الفنون، وقد كان رسّامًا مبدعًا، إلّا أن خبر رفضه نزل عليه كالصاعقة، فتطوّع في الجيش الألماني، ليتحوّل بعدها إلى سفّاح نازي»، هكذا يبدأ الشاب علي ناصر الدين حديثه ساخرًا، ويكمل «أنا أيضًا رُفضت في كلّية الهندسة في الجامـــــعة اللـــــبــــنانيّة رغـــــــم أنـــنــي متــــفوّق في الرياضيـــــات». ويـضــيف مازحًا: «لا أدري، ربـــّما سـأتحوّل إلى سفاح إن تمّ رفضي في العام المقبل أيضًا».
دراسات غائبة وتوجيه يحتاج إلى من يوجهه
يبدو أنّ الدول العربية مصابةٌ جميعها بمرض نقص البحوث، فوزارة العمل ومراكز البحوث الرسمية المختلفة في لبنان مثلًا، لا تُجري دراساتٍ مسحيةً لسوق العمل كما تفعل كل المؤسسات المشابهة في الدول المتقدمة. وبالتالي فهي لا ترسم مخططًا توجيهيًا لحاجات السوق، يمكّن الخرّيجين من الاستناد إليه عند اختيارهم اختصاصاتهم، فلا أرقام مفصلة عن المهن المتوافرة وعددها، ولا عن نسب النقص والفائض في كل منها، ولا توازن بين المعروض والمطلوب، هذا ما يؤكّده المدير السابق لمعهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانية الدكتور علي زيتون، مضيفًا: «هناك فجوة حقيقية بين التعليم وسوق العمل تبدأ من غياب الدراسات والإحصاءات المنهجيّة».
أمّا الدكتورة في كلّية الآثار نيفين الشويري، فتحمّل المسؤوليّة للجامعات الخاصة، «التي كلّ ما يهمها البحث عن الرّبح»، معتبرةً أنّ هذه الجامعات تفتتح أقسامًا لاختصاصات لا يحتاجها السوق وتستقبل أعدادًا هائلةً وتخرّجها على مبدأ «ادفع تنجح»، متسائلةً عن مصير الطلّاب الذين ما يزالون حتى اليوم يدرسون الفلسفة وتاريخ اللغات والجغرافيا: «أين سيعمل هؤلاء؟ وما الفائدة من اختصاصاتهم التي باتت ثقافةً عامة؟». يجيب مدير المركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي على سؤال الشويري، معتبرًا «أنّه لا يمكن الاستغناء عن أي اختصاص، فهي تعطي قيمًا وخامةً علميّةً مهمّةً شرط تحديثها وتوظيفها بطريقة صحيحة، وربطها مع الاختصاصات الأخرى، فبدل تدريس الفلسفة الإغريقيّة، يمكننا دارسة فلسفة الإدارة، لا الاستغناء عن الفلسفة كلّيًا، وهي أمٌ لكل العلوم».
ســـــــــــجّــل اختصاصين وستحصـــــــل على الثالث مجانًا!
لأنّ التعليم هو الآخر بات يقوم على الدعاية، تقوم الجامعات الخاصة بإعداد لقاءات مع طلّاب المدارس محاولةً استقطاب أكبر عدد منهم، فتعرّفهم على الاختصاصات الجامعية وأسعارها والمدة المطلوبة لإنهاء كل منها ومجالات العمل فيها... مستفيدةً من إبراز نفسها والترويج لاختصاصاتها وفق ما يؤكّد زيتون، مضيفًا «المفارقة أن الجامعات الخاصة تقيم لقاءاتها في المدارس الخاصة، لأنّها تعلم أن لا خبز لها في المدارس الرسميّة حيث الطّلاب غير قادرين على تسديد الأقساط المرتفعة».
ولكثرة الإعلانات التي تراها على التلفاز، وتلك المرشوشة على الطرقات، تشعر وكأنّ الجامعة ستقدّم لك اختصاصًا مجانًا إن سجّلت في اختصاصين لديها!
أمام غياب مبادرة الدول، واستيلاء الجامعات الخاصة على السوق الذي يُباع فيه مستقبل الطلاب، يبدو جديرًا بالطالب نفسه معرفه حاجاته وميوله الحقيقية بما يتوافق مع سوق العمل الذي يعتقد أنه يمكن إيجاد فرصٍ مناسبةٍ فيه.
ويبقـــــى علـــــــى وزارات التربيــــــة أن تتعــــامل مع الطالب كإنسانٍ مستقبلــي، يحتـــــــاج إلى أن يبني مهنتــــــه، لا كآلة يجب عليـــــــها النجاح فقط لتصاب بعدها بالصدأ نتيجة التعطّل عن العمل.