-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ملف العدد : هل تعيد الإنترنت تشكيلنا؟

الباحث :  علي أحمد
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  7
السنة :  السنة الثانية - خريف 2019م / 1441هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2019
عدد زيارات البحث :  356
لا شكّ أنّ شبكة الإنترنت فتحت بابًا واسعًا لمعلومات هائلة، زخمٌ هائلٌ من المعلومات والأخبار والمستجدّات تصل إلينا يوميًّا، وكلّها عبر جهاز صغير لا يتجاوز حجمه كفّ اليد، لقد بات العالم- فعلاً- بين أيدينا، لكن ماذا نريد نحن من هذا العالم؟
إنّ تجاهل الإجابة عن هذا السؤال يشبه الوقوف في مصعد دون أن تقرّر إلى أين ستذهب، إذا طلبه أحد للأعلى صعدت، وإذا طلبه أحد للأسفل نزلت.
وفي مجتمع “رقميٍّ” باتت تحكمه قيمه الخاصّة به، أصبح السؤال عن مصير قيمنا ملحًّا، هل يا ترى هو العداء الموروث لكلّ جديد؟ حيث ينقسم الناس إلى قسمين: قسم يعيش دور “المنبهر” إلى أقصاه، وقسم يعادي الجديد إلى حدّ اعتباره مؤامرة، ربما من مخلوقات فضائيّة. ولا بدّ في مقام الجواب أن نتابع المعطيات العلميّة ونقارنها بتجاربنا الملموسة.
أمّا في ما يرتبط بالتأثيرات النفسيّة والعقليّة، فإنّ الإحصاءات اليوم تكاد تُجمع بأنّ عليك التضحية بشيء من صحتك النفسيّة والعقليّة عند استخدام العالم الرقميّ، وفي أحسن الأحوال عليك أن تختار بعد كلّ استخدام لهذا العالم وقتًا تخصّصه لتعويض صحتك العقليّة والجسدية والنفسيّة. والحديث عن مرور سليم في العالم الرقميّ أصبح من الماضي، والخيار يعود إليك...؟!

تأمّل واحذر...
يقوم دماغنا بإفراز مجموعة من الهرمونات خلال التعامل مع الأحداث، وأحد أبرز المؤثّرات التي يتعرّض لها اليوم هي العالم الرقميّ، وأحد أخطر هذه الهرمونات هو الدوبامين، حيث يعدّ محفّزًا لاكتساب العادات الجديدة، هذا في الحالات الطبيعيّة، لكنّه حين يتجاوز المعدّلات الطبيعيّة، فإنّه يسبّب الإدمان، وهذا ما تفعله بعض التطبيقات والألعاب، خصوصًا تلك التي لا تقدّم إلّا المتعة الآنيّة، دون تحفيز التفكير أو دون عمل جماعيّ، تمامًا مثل لعبة كاندي كراش، وقد جرى تصميم مواقع التواصل الاجتماعيّ تحديدًا لتحفز الدوبامين، عبر تقديم جرعات من المتعة اللحظيّة تشبه تناول حبوب “الهلوسة” ينتهي مفعولها سريعًا، فيطلب الدماغ المزيد.
حسنًا، سنرتدي الآن قبّعة التخفّي، وسنذهب للتجول في البيوت، لن يرانا أحد لكنّنا سنرى كلّ شيء، صمت مطبق يلف المكان، لقد أصبح الأطفال هادئين جدًا، لم يعودوا مزعجين طالما الأجهزة الذكيّة بين أيديهم، لكن ماذا عن آثار ذلك نفسيًّا وجسديًّا؟
تشير توصيات مؤتمر أطبّاء الأطفال العالميّ 2017 إلى أنّه يمنع منعًا باتًّا استخدام الشاشات الذكيّة للأطفال تحت السنتين؛ لما لذلك من تأثير سلبيّ على نموّهم النفسيّ والجسديّ السليم، ولا يحبّذ استخدامها لفترات طويلة لمن هم أكبر سنًّا. وحول الهدوء البالغ  الذي يسود الأُسر اليوم، فإنّ ذلك لا يبشّر بالخير، ففي الوقت الذي تعدّ فيه المشاحنة نتيجة طبيعيّة للاقتراب، قد لا يعدّ غياب المشاحنات كلّيًّا أمرًا سليمًا، فقد أشارت الدراسات إلى أنّ المشاحنات علامة الزواج السعيد والناجح! ويُقصَد بالمشاحنات هنا تلك الطفيفة منها التي تعدّ جزءًا أساسيًّا من عمليّة التواصل والاختلاف، وتمهّد لحالة أعمق من التكاتف داخل الأسر. 

وطالما أنّ المشاحنة تعدّ صوتًا للحبّ، ألا يعدّ الصمت الطويل داخل الأسرة، ناقوس خطر؟ حيث تكون الأجساد متقاربة والقلوب متباعدة؟

 استعدّ للقيام بجولة... ثمّ قرّر
 يشير هال إلرود في كتابه “معجزة الصباح”، الذي جمع فيه العادات الصباحيّة المشتركة بين أبرز الناجحين إلى أنّ أهمّها كان الاستيقاظ باكرًا، فضلاً عن التأمّل (أو الصلاة مثلاً)، وأشار إلى عادة مهمّة جدًّا هي تأكيد الرسالة الشخصيّة في الحياة (هويتك، وأهدافك). وذكَر الكاتب أنّ هذا الفعل يمنع من الانجراف الأعمى، ويمنح صاحبه- أيضًا- البصيرة والتحكّم، والمسؤوليّة. والنتيجة الطبيعيّة لذلك ستكون “النجاح” والإنجاز والإبداع.
 لكن إذا كنّا نغفو ونصحو على مواقع التواصل لنتفقّد عدد الإعجابات وردود فعل الآخرين تجاهنا، فأيّ هوية هذه التي يتمّ صقلها؟ وأيّ نجاح؟

مهلاً لم تنتهِ جولتنا... سوف نكمل لنرى ماذا تفعل الإنترنت في عقولنا؟
لنكمل جولتنا، راقب أصابع المتصفّحين للهواتف، تكاد لا تثبت، تمسح الشاشة صعودًا وهبوطًا بسرعة؛ وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنّه إذا كان صمود المستخدم ليشاهد فيديو على يوتيوب هو دقائق قليلة، فإنّ صموده أمام منشور معيّن على فيسبوك هو لثوانٍ فقط. والدليل هو وضع المنشورات المطولة على الفيسبوك المثير للشفقة. هذه عمليّة تغيّر ممنهج في العقل، لن تجد متصفّحًا مدمنًا على مواقع التواصل ومحبًّا للقراءة، هذان الأمران لا يجتمعان في قلب واحد، والسبب ليس فقط التهام مواقع التواصل لوقت المستخدمين، بل إنّ سبب هجران مدمني مواقع التواصل للمطالعة هو أنّ إطالة استخدام الإنترنت تقوم بإعادة تشكيل دماغك بالمعنى الحرفيّ للكلمة، فتدمن التشتّت وفقدان القدرة على التركيز حتى حين تكون بعيدًا عن الإنترنت.
 هناك كثير من المشاريع والأهداف التي يطمح الشباب لتحقيقها، وقد لا تتطلّب منهم إلّا مجهودًا لوقت قليل، لكن جزءًا كبيرًا منهم لا يستطيع الصمود لساعة كاملة على مشروع أو مهمّة واحدة، أو تخصيص ساعة يوميًّا لمشروعهم والالتزام بذلك، وذلك بسبب إدمان التشتت وسرعة الملل، وكثيرون يتفقّدون هواتفهم خلال العمل بشكل تلقائيّ لا إراديّ، وقد أشارت الدراسات إلى أنّ مجرّد وجود الهاتف الذكيّ قريبًا من الشخص يعتبر من المشتّتات.
كما يشير نيكولاس كار في كتابه “ماذا تفعل الإنترنت في عقولنا؟ المناطق الضحلة The shallows”، ويقصد نيكولاس بالأماكن الضحلة الأماكن غير العميقة في المستنقعات والبحيرات، ويشير إلى أنّ هذا هو ما فعلته الإنترنت في عقولنا، حيث برمَجَتها على التفكير السطحيّ، بسبب طبيعة المنشورات وسرعتها وتنوّعها دون إفساح المجال للتركيز والتعمّق فيها، حتى المقالة المفيدة على مواقع التواصل لن تعطينا إلّا خلاصة بسيطة، بخلاف قراءة كتاب كامل حول أمر ما، وهو الذي يحفّز العقل للتعمق وحفظ المعلومات. وهذا الأمر منطقيّ إذا ما أخذنا صفة أساسيّة يتمتّع بها دماغنا، وهي المرونة العصبيّة، التي تقوّي العقد العصبيّة للأفعال التي نقوم بها بكثرة وتضعف العقد العصبيّة للأمور التي نهملها.

هل تريد المزيد؟ ما رأيك بجولة صغيرة على مواقع التواصل؟
حسنًا، ها نحن نفتح حساب فيسبوك، والأصدقاء الفيسبوكيّون قد نشروا ما لديهم، كلّ شيء هناك يستفزّك لتتكلّم، حتى فيسبوك يستقبلك بعبارة “فلان بماذا تفكر؟” المحتال يحقّق معنا بتذاكٍ، يريدنا أن نقول له كلّ شيء، شعورنا، همومنا، نقاط ضعفنا وقوّتنا، نوعٌ من التعرّي الفكريّ والنفسيّ؛ “ماذا تفكّر الآن” وماذا تشعر هو الأمر الوحيد الذي تستطيع الإبقاء عليه مستورًا ولو اجتمعت قوّة العالم لكشفه، لكن الفيسبوك يستدرجك للانكشاف، جرعة صغيرة  من الدوبامين يعطيها لك، خمسون إعجابًا، مئة إعجاب،  لقد بات لديك كثير من المعجبين، هيا قل أكثر، اكشف المزيد..
يقول “دايفيد كارول” وهو أستاذ في تصميم الوسائط الإعلاميّة media design ومشارك في إعداد الوثائقيّ الشهير “الاختراق العظيم The great hack” : “كنت أدرّس الإعلام الرقميّ وبناء التطبيقات، وعرفت أنّ البيانات المرتبطة بنشاطنا على الإنترنت لم تكن تتبخّر.. وإذ تعمّقت في البحث أدركت أنّ آثارنا الرقميّة هذه تُجمع وتُحفظ.. أصبحنا الآن السلعة، ولكنّنا كنّا مغرمين بهدية التواصل المجانيّ هذه لدرجة أنّه لم يهتمّ أحد بقراءة الشروط والأحكام* Terms and conditions”.
وهذا يطرح سؤالاً بقوّة: هل نحن أحرار حقًّا على الإنترنت؟ هل يشكّل العالم الرقميّ في الحقيقة مساحة الحرّيّة التي يبدو عليها؟ هل ثمّة من يؤثّر على توجّهاتنا السياسيّة وخياراتنا الانتخابيّة؟ ربما يأتي الجواب صادمًا لكثير من المنبهرين بحفلة التواصل الاجتماعيّ هذه، إذا ما عرفوا أنّ خصوصيّتهم على الإنترنت صفر، وأنّ بياناتهم تستخدم للتأثير على آرائهم وفي توجيههم،
ويضيف دايفيد كارول: “إنّ جميع تفاعلاتي، استخدامي لبطاقتي الائتمانيّة، وأبحاثي على الإنترنت، ومواقعي وإعجاباتي تُجمع كلّها لحظة قيامي بها وتُرفق بهويّتي، ما يمنح الشاري (يقصد الجهة التي ستشتري هذه المعلومات من الشركة الأمّ) ولوجًا مباشرًا إلى نبضي العاطفيّ، وإذ يتسلّح الشارون بهذه المعلومات يتنافسون لجذب انتباهي، فيغذّونني بدفق ثابت من المضمون المصمّم خصيصًا لي، ولا يراه سواي، وهذا صحيح ويحدث مع كلٍّ منّا، ما يعجبني، ما أشعره، ما يلفت انتباهي، وما هي حدودي وما يلزم كي أتخطاها”!
يعود الأمر في النهاية إذًا للقيَم التي نقرّر تبنّيها، قد لا يكون قرار التخلّي عن الإنترنت منطقيًّا، لكن كلّ وقت نقضيه هناك يتطلّب مجهودًا بالمقابل للحفاظ على أنشطتنا السليمة، ولا سيّما على مستوى عمق التفكير، وعمق علاقاتنا. لكي لا نكون نشطاء جدًّا على مواقع التواصل، لكن كما قال مصطفى محمود: أقلّ رحمة، أقلّ مودة، أقلّ عطفًا، أقلّ شهامة، أقلّ مروءة وأقلّ صفاءً من الإنسان المتخلّف.