-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ملف العدد : مواقع التواصل الاجتماعي وتدمير الاستقلال الفكري والديني

الباحث :  زينب عقيل
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  7
السنة :  السنة الثانية - خريف 2019م / 1441هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2019
عدد زيارات البحث :  410
في أحد أهمّ كتبه عن تحدّيات الإدارة في القرن الواحد والعشرين، يقول الكاتب الأمريكيّ بيتر دراكر Drucker:  “بعد عدّة مئات من السنين، عندما يكتب المؤرّخون عن عصرنا الحاليّ، على الأرجح أنّ أهمّ ما سوف يلحظونه ليس التكنولوجيا ولا الإنترنت ولا التجارة الإلكترونيّة، إنّما التغيّر الجذريّ وغير المسبوق في السلوك الإنسانيّ. لأوّل مرّة في تاريخ البشريّة توجد أعداد كبيرة ومتزايدة من البشر يمتلكون مجموعة واسعة من الخيارات، ويقفون أمام تحدّي إدارة أنفسهم بأنفسهم والمجتمعات مؤهّلة لذلك”.
وبعد عدّة سنوات، نرى أنفسنا ومجتمعاتنا- اليوم- أمام مجموعة هائلة من الخيارات السياسيّة والإعلاميّة والثقافيّة، التي لا يمكن لجهة واحدة سواء أكانت حكومة أو وسيلة إعلام أو منظمة دينيّة، أن تقود على أثرها جمهورًا متنامي الذكاء والمعرفة ومتعدّد الآراء والتوجّهات، كل ذلك يحصل في فضاء مواقع التواصل الاجتماعيّ.
لقد بدأ ذلك الجمهور يتعرّف أكثر على خياراته المتوفّرة، فلا يجد نفسه مجبرًا على أن يستمع إلى أخبار قناة معيّنة وتقاريرها؛ لأنّ الانتقال إلى أخرى بالنسبة إليه هو مجرّد “كبسة زرّ”، وكذا لا يجد المواطن العاديّ نفسه ملزمًا بالانتماء الجغرافيّ لمنظّمة هنا أو لوطن هناك، أو لجماعة، أو حتى لدين.
فمن الممكن أن ينتمي إلى إحدى الآف المنظّمات أو التجمّعات أو الشبكات الإلكترونيّة التي تحيا في الإنترنت، وتنشر فكرها على الشبكة، وتمارس طقوسها الخاصّة، وتمنح منتسبيها الشعور بالانتماء، ويقابلونها بالولاء، فيُلاحظ أنّ قوّة الولاء للوطن الافتراضيّ أقوى من قوّة الولاء للوطن الجغرافيّ في هذا الفضاء المتشابك.
وفي الواقع يمكن القول إنّ هذه التوجّهات الثقافيّة ما زالت في مقتبل عمرها، خاصّة أنّ ثمّة جيلًا قد وُلِدَ لتوّه بين الشبكات العنكبوتيّة الاجتماعيّة، وسوف يبني علاقاته الإلكترونيّة منذ نعومة أظفاره، فمنذ ظهور الشبكة تتشكّل تباعًا تطبيقات وطبيعة اتصال إلكترونيّة (ألعاب، محادثات، دروس...) تكوّن أشكالًا مختلفة للاتصال الفرديّ والجماعيّ والجماهيريّ، وقد تجاوز معظمها الرقابة والعراقيل التي تتعرّض لها الثقافات التقليديّة، كما أنّ العوامل الاقتصاديّة والسياسيّة الراهنة، قد
تداخلت بشكل غير مسبوق مع التقنيّة؛ لتجعل من مواقع التواصل الاجتماعيّ قضيّة شائكة جدًّا تؤثّر على الهويّات القوميّة وآليّات عمل الثقافات الدينيّة.

ويمكن تلخيص بعض هذه المتغيّرات بالعناوين الآتية:
الحتميّة التقنيّة-الاجتماعيّة وتغيّر أنماط التفكير والسلوك البشريّ:
يُلاحَظ أنّ تصرّف الأفراد في المجتمع الطبيعيّ ليس هو تمامًا الذي يُرى في مجتمع الإنترنت؛ ذلك أنّ التصرّف الإنترنتيّ يرتبط بأمور أخرى جديدة، منها: تحلّل الفرد من قيود الزمان والمكان، ومن مسؤوليّة وجوده، ومن أدواره الاجتماعيّة، وبالتالي من القيود السياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة والقيميّة، الأمر الذي يمنحه قدرًا كبيرًا من الحرّيّة التي ربما لا يتمتّع بها في واقع حياته الطبيعيّة، وهذا التحلّل سيُنتِج مضامين جديدة مختلفة عن تلك التي تُنتَج مع القيود الشخصيّة والزمانيّة والمكانيّة، وبالتالي فإنّ مجتمع الإنترنت بهذه الصورة هو مجتمع اللاتحقّق في كثير من تمثّلاته، ومجتمع التعامل بقدر الانتفاع من التحلّل من قيود كثيرة.
ومن ناحية أخرى، فإنّ ظهور معالم اللامركزة، التي تمكّن الأفراد والجماعات من تأدية أعمالهم وأنشطتهم عبر الإنترنت، ستخلق أنواعًا جديدة من الاهتمامات التي ستفرزها طبيعة الاتصال الجديدة.
وبالتالي فإنّ العقل الجمعيّ الإلكترونيّ الجديد سيؤثّر في العقل الجمعيّ الطبيعيّ الذي قد يُظهِر ضعفًا لناحية إفراز قواه والمحافظة عليها بمستوى عالٍ من الضبط والتحكّم، أو التوجيه الاجتماعيّ العام للجماعات والأفراد.

نزعة الفردانيّة في الفضاء الافتراضيّ لمواقع التواصل:
منذ عصر التنوير، بدأ يتبلور اتجاه يدور حول رفض أن يضحّي الفرد بذاته الخاصّة من أجل النظام الاجتماعيّ العام؛ بنحو تذوب فيه شخصيّته بالهويّة الجَمعيّة، هذه الفكرة أدخلت الحياة البشريّة إلى عصر جديد، تحوّل فيها الإنسان من كائن اجتماعيّ يذوب في الجماعة بمختلف أشكالها، إلى كائن يصنع وجوده الخاصّ ويصوغ كينونته، ما جعله أكثر ميلًا إلى التحرّر من سلطة الثقافة السائدة في المجتمع؛ ذلك أنّ الجمعنة –مقابل الفردانيّة- التي تعرفها المجتمعات التقليديّة، تعني أنّ الفرد صورة طبق الأصل أو نسخة مكرّرة عن شخصيّة العائلة أو القبيلة التي ينتمي إليها في أفكاره وأسلوب حياته وطبيعة نظرته إلى الأشياء. والفردانيّة تؤكّد مبدأ أصالة الفرد وتفرّده وتميّزه مقابل التماثل والتطابق.
ثمّ أدخل المجتمع الافتراضيّ الفرد في حالة الذاتيّة التي تعتبر واحدة من إفرازات الفردانيّة، حيث ساهمت مواقع التواصل في تنشيط الشعور بالأنا الفرديّة، من خلال ما منحته للفرد من إحساس بقوّة الحضور على مواقع التواصل الاجتماعيّ. فبعد أن كان الفرد (المُستخدِم) يعيش في دائرة ضيّقة لا تكسبه الشعور بالتميّز، دخل إلى عالم تضخّمت فيه ذاته، بفعل عوامل عديدة أهمّها: التحرّر من سلطة الدولة أو العائلة، والقدرة على التعبير عن آرائه وأفكاره بحرّيّة، وتقدير ذاته عبر ما يحصل عليه من إعجابات وتعليقات ومشاركات وغيرها.
وبذلك تكون هذه المنابر قد وجّهت ضربة قويّة إلى الهويّة الجمعيّة من الفضاء الافتراضيّ، وساهمت في انهيار فكرة الجماعة المرجعيّة بمعناها التقليديّ، والتي يحدّدها الإطار الجغرافيّ أو القَبَليّ أو غيرهما، لتحلّ محلّه الجماعة القائمة على أساس الاهتمامات المشتركة. فلم تعد الجغرافيا ولا الانتماء العرقيّ أو الدِّيني أو القَبَليّ... إلخ من أشكال الانتماء التقليديّ هي التي تتحكّم في وجهة الانتماء.
والجدير ذكره أنّ تفكيك الهويّة لا يقتصر على الدين أو الوطن أو القوميّة، بل يتجاوزها إلى الهويّة الفرديّة ذاتها؛ لأنّ المشاركين في المجتمعات الافتراضيّة يتقنّعون في كثير من الأحيان بأسماء مستعارة، وبعضهم له أكثر من حساب بأكثر من هويّة وفق أهدافه التي يريد تحقيقها.
وقد أتاح تفكيك الهويّة الشخصيّة في العالم الافتراضيّ الشعور بعدم الحرج في الكتابة عما يجول في الخاطر ولا في تبادل السباب والشتائم. وحتّى عندما يستخدم هؤلاء أسماءهم الحقيقيّة، لا يشعرون بنفس الحرج أو الارتباك الذي يشعرون به في المواجهات الواقعيّة. وعليه، تعتبر مجتمعات العالم الافتراضيّ فضاءات رحبة مفتوحة للتمرّد والثورة، بدايةً من التمرّد على الخجل والانطواء، وانتهاءً بالتمرّد على الأخلاق العامّة واللياقة واللباقة.

تحوّل أيديولوجيّ ذو توجّه ليبراليّ
يمكن القول إنّ التغيّرات التقنيّة وما نجم عنها من تغيّرات سيكولوجيّة قد أسهمت في حدوث تغيّر آخر لا يقلّ أهمّيّة عنه، هو التحوّل الإيديولوجيّ الذي بات يترتّب على الفضاءات الرقميّة بحكم المحدّدات النفسيّة، والمعرفيّة، والفكريّة التي تفرضها تلك التقنيّة. فقد أصبح  الجيل الرقميّ يؤمن أكثر من أيّ وقت مضى بمبدأ الحرّيّة الفرديّة، وحرّيّة التعبير، وحرّيّة الاختيار، والأهمّ تعدّد الطروحات. والملاحظ أنّ غالبيّته لم يعد يحتمل أحاديّة الطرح والفكر المنغلق، وفي هذا السياق الاتصاليّ والإعلاميّ باتت مواقع التواصل ذات أهمّيّة قصوى بالنسبة للجيل الرقميّ، بصفتها فضاءً بديلاً عن الإعلام القديم، فهي منبر مَن لا منبر له في التعبير، ونادٍ للتعارف لمن لا مكان له في نوادي العالم الحقيقيّ، وفضاء لإبراز مختلف أشكال الإبداع الذاتيّ لمَن لم يتسنّ له التعريف بمهاراته في العالم الحقيقيّ، ومكتبة لمن لا كتب وموسوعات في بيته، ومدرسة متعدّدة التخصّصات لمن لا مدرسة له، ومكتب تشغيل لمن لا وظيفة له.

الانتماء إلى المجتمع الرقميّ والتنشئة الاجتماعيّة:
إنّ التحدي الكبير الذي سيشكّله هذا التغيّر لاحقًا على المجتمعات يكمن في تحوّل المنصّات الاجتماعيّة إلى منصّات تنشئة اجتماعيّة لا تنظّم محتوياتها وفقًا لمقتضيات بناء المجتمع الواحد، أو لمقتضيات الحفاظ على تماسك ذلك المجتمع، عبر إنتاج قيم ثقافيّة واجتماعيّة وفكريّة متجانسة، والحرص على توارثها. وبذلك ستُزاحم تلك المنصّات مؤسّسات التنشئة التقليديّة التي تخضع في محدّداتها لتصوّر واضح المعالم والتوجّه والأهداف، بينما تتضارب المحدّدات الرقميّة في معالمها وتوجّهاتها وأهدافها. فالفرد على الإنترنت لا يكون منطلقه المعرفيّ والاجتماعيّ والثقافيّ مجتمعَ الانتماء الحقيقيّ الذي يحتضنه فقط، بل الجماعة الافتراضيّة التي يتأثّر بها عبر مختلف أشكال الزخم الفكريّ والأيديولوجيّ المتداول في مختلف منصّات التواصل بمختلف المرجعيّات الأيديولوجيّة، وبمختلف لغات العالم وثقافاته؛ ما يشكّل تداخلًا بين الفعل الخارجيّ للتنشئة الاجتماعيّة والفعل الداخليّ الذي يُقوّض أهداف هذا الأخير.