-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ملف العدد : قراءة جديدة لمفهوم الميديا

الباحث :  حسن الزين
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  7
السنة :  السنة الثانية - خريف 2019م / 1441هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 14 / 2019
عدد زيارات البحث :  396
دراسات الميديا التطبيقيّة:
لقد تجاوز عالم اليوم المفهوم النظريّ الكلاسيكيّ للميديا، وأصبحنا في مجال دراسات علم “الميديا التطبيقيّة” أو “الهندسة الاجتماعيّة” - إنْ صحّ التعبير والترجمة اصطلاحاً -؛ لأنّها دخلت في صميم حياة الفرد المعاصر واجتماعه، وباتت جزءًا من نمط حياة وأسلوب عيش الأجيال الجديدة، وغدت تُشكِّل وعيهم وسلوكهم، وخياراتهم، وتصوّراتهم، واستهلاكهم، ونموذجهم الثقافيّ والسياسيّ، وتنتج أزماتهم العقليّة والنفسيّة وتهدّد حاضرهم ومستقبلهم.
واليوم نعيش عصر منصّات التواصل الاجتماعيّ التي أصبحت تُستخدم من قبل 3 مليار شخص؛ أي نصف سكّان الكرة الأرضيّة، وهؤلاء يتفاعلون يوميًّا بما لا يقلّ عن 3 ساعات في الحدّ الأدنى، ويصنعون “ فقّاعات تواصليّة”، يظنّ بعض الأشخاص أنّها قضايا، دون تجاهل قدرة هذه المنصّات على الحشد والتعبئة السياسيّة للطاقات الشبابيّة وتوجيهها وتوظيفها، وفي التوظيف تتغلّب الحكومات ومؤسّسات الإعلام التقليديّ على الميديا الجديدة، وتقوم بدمجها بما يحقّق أو يخدم أهدافها السياسيّة والتجاريّة والإعلاميّة.
الأخطر في منصّات الميديا الجديدة هو مرحلة الإدمان على استخدام منصّات التواصل الاجتماعيّ، ما جعل شبابنا وطلّابنا ومراهقينا يعيشون في عالم افتراضيّ اجتماعيّ مركّب وهجين، “أطلق عليه أحد علماء الاجتماع “الـتواصل الفرديّ - الجمعيّ”، وهنا تكمن الخطورة.

الذكاء الصناعيّ والذكاء العاطفيّ:
ما يُسجّل على بعض الكتب هو إغفالها التركيز على تأثير الميديا في العقل البشريّ وسيكولوجيا ذات المستخدم، وهويّته وذكائه العاطفيّ، وهو ما اتّجهت نحوه الدراسات الحديثة بتوجيه من الحكومات والجامعات والجمعيّات الأهليّة والمدنيّة، شعوراً منها بخطورة إدمان الميديا على البيئة النفسيّة والذهنيّة والعصبيّة للمستخدمين.
وقد صدر كتاب جديد سلّط الضوء على هذا الموضوع، بدراسات علميّة تحت عنوان «تغّـيُر العقل، كيف تترك التقنيّات الرقميّة بصماتها على أدمغتنا»، وقد تضمّن مناقشات جادّة لخبراء في مختلف فروع العلوم الطبيّة والعصبيّة وعلوم النفس والاجتماع والتربية، ما يؤكّد الدور المحوريّ للتقنيّات الرقميّة والميديا الجديدة في «تغيير بنية العقل»، والتأثير على ذكائه العاطفيّ، وهو ما نتج عنه ظواهر عديدة، منها: العزلة، والتوحّد، والشعور بالوحدة، والتبلّد الشعوريّ والعاطفيّ، والاكتئاب وما شاكل.

نظرية امتداد المنصّات إلى مكوّنات العقل والهويّة:
نعيش اليوم ثورة على مستوى أبحاث ودراسات سيكولوجيا المستخدم للمنصّات الرقميّة، وثمّة نظريّات جديدة استجدّت على مستوى تفسير علاقة الارتباط بين المستخدم والمنصّة الرقميّة التي انتقلت من وسيط ميديا، إلى امتداد مادّيّ أو شبه مادّيّ للعقل، يتلاعب بمكوّنات الدماغ وخرائطه، وهو ما تمثّله نظريّة «امتداد الدماغ أو العقل».
فلم يعد ما يسمى «بإدمان الهواتف الذكيّة» مجرّد مشكلة نادرة أو معمليّة بحتة، بل باتت إحدى أكثر الأسباب إثارة للقلق والاهتمام، فبعد عقود على نشوء شركة جوجل Google، أصبحت خدمات جوجل جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة، ما أدّى إلى تغيير هيكلة بنيتنا الذهنيّة في حدّ ذاتها. وهكذا، امتدّت أدمغتنا إلى الفضاء الإلكترونيّ. في الحقيقة، هذا ليس من وحي الخيال العلميّ، ولكنّه وليد ما يُعرف بفرضيّة «العقل الممتدّ»، وهي النظريّة المعتمَدَة على نطاق واسع في مجال الفلسفة وعلمي النفس والأعصاب[1].
إنّ اتكالنا المتنامي على خدمات جوجل «المخصّصة» والقائمة على الذكاء الاصطناعيّ، جعلنا نتخلّى عن قدر أكبر من مساحتنا الذهنيّة الشخصيّة لصالح جوجل. وهكذا، بدأت خصوصيّتنا الفكريّة وقدرتنا على التفكير بحرّيّة، تتلاشى تدريجيًّا.
عدا عن ذلك، بدأت الدلائل تشير إلى إمكانيّة وجود صلة بين استخدام التكنولوجيا وبعض المشاكل النفسيّة. بعبارة أخرى، ليس من الواضح ما إذا كانت أدمغتنا قادرة على تحمّل الإجهاد الناجم عن توسّع العالم الافتراضيّ، وربما نكون قد اقتربنا من نقطة الانهيار. وقبل هذا البحث، كانت الإجابة المتّفق عليها بين العلماء هي القول إنّ العقل محدود بالجلد والجمجمة (أي يحدّ أداءه الدماغ والجهاز العصبيّ). 
وفي هذا الصدد، أشار الخبراء إلى أنّه عند دمج عناصر من البيئة الخارجيّة ضمن طريقة تفكيرنا، يصبح لتـلك العناصر الدور الإدراكيّ لأدمغتنا نفسه.

كيف باتت عقولنا متّصلة بغوغل؟
وضع العلماء هذه الفرضيّة قبل ظهور الهواتف الذكيّة والجيل الرابع للشبكات الخلويّة، بالتالي كانت الأمثلة التوضيحيّة المعتمدة في هذا البحث خياليّة نوعًا ما، فعلى سبيل المثال، اعتمد الباحثون مثال الرجل الذي اعتمد على مذكرة في حياته اليوميّة، وجعلها بمثابة الذاكرة الخارجيّة له. لكن كما أوضحت الأبحاث الأخيرة، فإنّ فرضية «العقل الممتد» تمسّ بشكل مباشر هوَسَنا بالهواتف الذكيّة وغيرها من الأجهزة المتّصلة بالويب.
عمومًا، أصبح كثير من الناس أسيرًا للهواتف الذكية منذ الصباح وحتى ساعات متأخّرة من الليل، فبات من الطبيعي اللجوء إلى خدمات جوجل (على غرار محرّك البحث والتقويم والخرائط والمستندات ومساعد الصور وما إلى ذلك). وفي الحقيقة، أضحى اندماجنا الفكريّ مع جوجل واقعًا، حيث تتّكل عقولنا بشكل جزئيّ على خدمات غوغل Google.
لكن هل يعدّ هذا مهمًّا فعلًا؟ ونقول في مقام الجواب إنّ ذلك مهمّ فعلًا؛ لأنّ جوجل لم يعد مجرّد أداة معرفيّة سلبيّة، فقد أضحت ترتكز آخر تحديثاتها القائمة على الذكاء الاصطناعيّ والتعلّم الآليّ على الاقتراحات.  ففي الوقت الراهن، لم تعد خرائط جوجل تكتفي باطلاعنا على كيفيّة بلوغ وجهتنا (سواء أكان سيرًا على الأقدام أو بالسيارة أو بوسائل النقل العامّة)، بل أصبحت تقدّم لنا اقتراحات حول الأماكن التي قد تنال إعجابنا.

الإدمان أم الاندماج؟
وفقًا للتقارير الأخيرة، يتحقّق ​​مستخدم الهواتف الذكيّة العاديّ في المملكة المتّحدة من هاتفه كلّ 12 دقيقة. وفي الواقع، هناك مجموعة كاملة من التداعيات السلبيّة لهذه الظاهرة على المستوى النفسيّ، حيث يعدّ الاكتئاب والقلق من أبرزها.
في هذه الحالة، مصطلح «إدمان»، حسب رأيي، ليس سوى مجرّد مرادف للاندماج الذي ذكرته سابقًا.
 إنّ السبب الحقيقيّ وراء عجز أغلب المستخدمين عن وضع الهواتف الذكيّة والتقنيات الرقميّة جانبًا، هو أنّهم قاموا بدمج استخدامها في طريقة تفكيرهم اليوميّة. فقد أضحوا يفكرون من خلالها فعلاً، وبالتالي لا عجب في أن يصبح من الصعب التوقّف عن استخدامها.
وما يؤكّد هذا الأمر بدليل ملموس، هو ما يسببه فقدان الهاتف الذكيّ فجأة من ارتباك ذهنيّ واضطراب نفسيّ، فهو أمر شبيه بخضوع الفرد لجراحة دماغيّة، بدلاً من ذلك، يتعيّن تعلّم التفكير بشكل مختلف من أجل التخلّص من الإدمان والاندماج واستعادة الصحّة الذهنيّة، والمدارك العقليّة.

التواصل الاجتماعيّ وإثارة الأنا الفرديّة وروح المقارنة:
إنّ اخطر دراسات الميديا، هي دورها في التلاعب بمكوّنات الأنا الفرديّة، فقد وجدت دراسة أنّ 90% من الجيل الجديد يقولون إنّ وسائل الإعلام الاجتماعيّة تجبرهم على مقارنة أوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة أو أسلوب حياتهم بأقرانهم، ما يجعل 60% منهم يعبّرون عن عدم اكتفائهم بما يملكون بسبب ما يرونه في وسائل الإعلام الاجتماعيّة؛ لذلك قال 57% منهم إنّهم أنفقوا أموالًا لم يخطّطوا لإنفاقها، عدا عن ميلهم إلى التفاخر بتجاربهم وأغراضهم على منصّات السوشيال ميديا كطريقة للمواكبة العصريّة[2]. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه المقارنة تُشعر المتواصل بعدم الاكتفاء، وتزعزع قناعاته بنفسه، وتقلّل من احترامه لذاته، وقد تجعله في أحيانٍ أخرى غير واثق في قدراته العمليّة لإنجاز مهمّة ما، أو للوصول إلى هدف معيّن، على الرغم من أنّ هذه التصرّفات قد لا تكون واقعيّة أو ملائمة لنمط الحياة الخاصّ به.

التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع:
من أخطر الظواهر وأطرفها التي عرفت في سوسيولوجيا الجماعات والمجتمعات ما يعرف بظاهرة القطيع أو الحشد Crowed، إذ لا تنطبق ديناميّات الفعل الجمعيّ على مثل هذا النوع من الجماعات، من هنا يصعب التنبّؤ بسلوك الحشد واتجاهاته والمآلات التي ينتهي إليها[3].
يتكوّن الحشد من مجموعة من الأفراد المتنوّعين في الخصائص والأهداف، وليس من المفيد كثيرًا التعرّف على خصائص كلّ فرد على حدة؛ لأنّ خصائص الحشد لا تعادل مجموع خصائص أفراده، ذلك أنّ شخصيّة الحشد تتكوّن تحت تأثير عوامل أخرى غير خصائص أفراده، إذ تعمل عناصر كامنة مكبوتة داخل الأفراد وعقلهم الباطن بما يشكّل العقل الجمعيّ للحشد، وهذا ما تؤيّده نظريّة التقارب في تكوين الحشود.
في الختام، نقول للشباب إنّ المنصّات الرقميّة والميديا وسيلة وفرصة، وتهديد في الوقت نفسه، وإذا لم نمتلك المحتوى الذاتيّ، ستملؤنا المنصّات بالفوضى التي تنشرها، وإذا لم نسيطر عليها، ستتحوّل من فرصة إلى تهديد. لذلك أنصح الشباب بأن يبنوا مرجعيّتهم الفكريّة والثقافيّة والتربويّة والروحيّة بعيداً عن هذه المنصّات، وثمّة دور للأهل والمؤسّسات الاجتماعيّة والمرجعيّات الفكريّة في تعبئة طاقات الشباب وأوقاتهم، كي لا تسيطر عليهم منصّات الميديا، وهذا ما سيقلّل من كمّ الأزمات ونوعها التي قد تنتجها لنا، إذا لم نتقِ شرّ تهديدها.  

---------------------------------
[1] جوجل بعد 20 سنة-  هكذا أضحى محرّك البحث امتدادًا لأدمغتنا، بنيامين كرتس، المصدر: ذي كونفرسايشن، ترجمة موقع نون بوست.
[2]  طبقة الأثرياء الجدد- مظاهر خدّاعة عزّزتها منصّات التواصل الاجتماعيّ، نور علوان، نون بوست، نشر بتاريخ 20  سبتمبر 2018
[3]  سلوك القطيع في وسائل التواصل الاجتماعيّ، عزّام أبو الحمام، موقع عربيّ 21، نشر بتاريخ 6/1/2016