-----------

  البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ملف العدد : الحب في ميزان الواقعية...

الباحث :  الشيخ عباس إبراهيم
اسم المجلة :  مع الشباب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - صيف 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 4 / 2019
عدد زيارات البحث :  384
من المفردات المهمّة التي تتردّد كثيراً في حياتنا،  وتعتبر منطلقاً  للكثير من أعمالنا وعلاقاتنا  مفردة “الحبّ”، مفردةٌ صيغت من أبجديّة الوفاء والصفاء والصدق والاهتمام، الحبّ عنوان وعي، وسلوك جمال، الحبّ وطن وهويّة، لكن إذا لم نحسن الانتماء إلى هذه المفردة ولم نفهم سرّها وسحرها وكنْه الطهر فيها، فإنّها قد تتحول إلى شَرَك وحجاب، وتغدو مثل يد الشيطان التي تقودنا إلى الهاوية، وحينها تتبعثر كلُّ ابتسامات الطهر التي كانت مرتسمة على شفاه الوعود الخاوية والنزوات العابرة.
من هنا وجب فهم حقيقة هذا المفهوم كي نصونه عن دنس السلوك الذي لا يمتّ إلى عبق طهره، ويزداد الأمر أهمّيّة عندما نقرأ في كتاب الله أنّ الحب ضمانٌ وسورٌ منيع يحمي الأسرة، ويحرس سكنها، ويروي بذور الأنس فيها؛ إذ يقول تعالى: Nوَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةًM [1] فإنّ عبارة
Nلِتَسْكُنُوا إِلَيْهَاM غاية الزواج الذي اعتبره تعالى من NآَيَاتِهِM. ومن أجل صيانة سكن السّعادة وحمايته تكفّل المولى -سبحانه- بجعل المودة والرحمة فيه Nوَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةًM، والمودة هي «الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل»[2].

معنى الحبّ:
الحبُّ ميلٌ وانجذاب لذات الآخر وكمالاته، وبهذا يفترق عن الأنانيّة التي قد تمارس باسم الحبّ؛ فالحبّ هو أن تميل للآخر وتؤْثره لذاته لا لذاتك.
فمن يدعي حبَّ الله -تعالى- ويعبده لأجل أن يرزقه بيتاً أو منصباً -مثلاً- فهو في الحقيقة يحبّ نفسه، وعلاقته بالله نابعة من حبّه لذاته ورغباته لا من حبّه لربّه ومولاه. كذلك فإنّ من يحبّ شخصاً لأنّه يُسَرّ بجماله أو يأنس بحديثه، فهو لم يحبّ ذلك الشخص، بل يحبُّ نفسه؛ فمن يريدك لذاتك هو حبيب، ومن يريدك لذاته هو أنانيّ.
فالمحبّ إذاً هو من «يحبّ الشيء لذاته، لا لحظٍّ يناله منه وراء ذاته، بل تكون ذاته عين حظّه، وهذا هو الحبّ الحقيقي البالغ الذي يوثق به»[3].

الحبّ والأنانيّة في نموذجين:
النموذج الأوّل: «أنانيةٌ بلون الحبّ»، وهو المشهد الذي رسمه القرآن الكريم  في حكاية نبي الله يوسف g  وزوجة العزيز؛ Nوَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَM [4]؛ فزليخة أرادت يوسفَ لنفسها، وعندما استعصم رمته في السجن لتشفي غيظها، وهذا لا يمتّ إلى الحبّ بصلة؛ لأنّها تسلّحت بسلاح الحبّ لتصطاد قلب الشاب الجميل الذي شغل فكرها ومشاعرها، وإن كانت تحبّ فعلاً، فحبّها لذاتها لا ليوسف، ورغبتُها في الوصول إليه لأجلها لا لأجله، وهذا الذي أسميناه «أنانية».

النموذج الثاني: 
هو  «مصداق حبٍّ صادق» ، نموذجٌ  يجسّده  يوسف الصدّيق g فإنّه عندما وُضِع أمام خيارين: إمّا أن ينقاد لزوجة العزيز ويجيبها إلى ما تريد، وإما أن يختار السجن في سبيل مَن يحب، كان خياره محبوبه، وفي سبيله قال: Nالسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيهM [5]؛ فإنّه g قَبِلَ أن يُسجن ويتحمّل العذاب والمتاعب تقرباً إليه -عزّ وجلّ-؛ فهو صادقٌ في حبّه لمولاه، وشعورُه تجاهه حبٌّ بلا خلاف.

الحبّ بين القلب والعقل:
الحُبّ قانون لا بدّ من فهمه وإدراك كلّ بنوده ليتسنّى للمحبين حياكة سعادتهم  بخيوطه ومِغزله؛ ومن بنوده معرفة موقعيّته بين العقل والقلب، فهل القلب هو الذي يأمر العقل ويقوده إلى الخضوع لصوت الحبّ؟ أو العكس؟
يعتقد بعض الأشخاص أنّ الحبَّ شعورٌ وسلوكٌ، لكن ينبغي القول: إنّ الحبّ ليس هو الشعور، بل الشعور من نتائج الحبّ وآثاره؛ لأنّ الحبّ ميلٌ وانجذابٌ؛ ميلٌ تابعٌ للإدراك والمعرفة، فهو فعل العقل لا فعل القلب؛ فإنَّ العقل حين يتعرّف على صفات الآخر يعجب بها وتصبح محطّ تفكيره، فيتولّد من ذلك شعورٌ يستوطنُ القلبَ لينعكس فعلاً وسلوكاً، وهذا الفعل والسلوك هو انعكاس للحبّ وثمرته وليس هو الحبّ نفسه.
يمكن تشبيه الحبّ بشجرة غصونها في القلب وثمارها في السلوك والفعل، لكن جذعها يستقرّ في تربة العقل والروح. ومن هنا يقول العلّامة النراقيّ: «الحبّ والكراهية تابعان للإدراك؛ لذلك فإنّهما ينقسمان بحسب انقسام القوة المدركة التي هي الحواس الظاهرة، والحواس الباطنة، والقوّة العاقلة»[6]؛ أي إنّه لمّا كان الحبُّ قائماً على أساس العقل والإدراك، فإنَّ العقلَ يُعمّم وظيفةَ المُحِبّ على كلِّ القوى الخاضعة لسلطته من الحواس والشعور والسلوك والأعمال.

إعادة نظر... 

بعدما شددنا وثاق الحبّ بقيود المعرفة وجب إعادة النظر في بعض الممارسات العاطفيّة والسلوكيّة وتصويبها وفق ما تقدّم؛  ليتسنّى تحديد ما ليس من مصاديق الحبّ، وإخراجه عن سياج قداسته، فيبقى الحبّ وحيداً في نقائه، مصوناً عن كلّ العناوين التي تسلّقت أدراج علوّه زوراً واشتباهاً من قبيل: «الحبّ من أول نظرة» أو «الحبّ قبل الزواج». 

الحبّ من أول نظرة:
ما يُعبّر عنه بالحبّ من أول نظرة هو شعورٌ فاقدٌ لشرط الحبّ؛ إذ إنّه سابق لمعرفة كمالات الآخر وواقع صفاته، فهو  شعورٌ لا يعدو الإعجاب والاستحسان، ثم يتحوّل بعد المعرفة والمعاشرة إما إلى ميلٍ وحبّ، أو إلى بُغضٍ وكره بحسب ما يتكشّف للعقل من حقائق ودقائق عن ذلك الشخص، فيحكم -العقل- بما يناسب تلك المعرفة من حبّ أو نفور. ومن هنا يقول العلماء: «لا يتصوّر حب إلا بعد معرفة وإدراك... ولا يحبّ الإنسان ما لا يعرفه ولم يدركه»[7].

الحبّ قبل الزواج: 
عطفاً على ما ورد في كلامنا حول «الحبّ من أول نظرة»، نقول: إنّه -بحسب الغالب-  قبل الزواج، وفي طور البحث عن الشريك يعمد الفرد إلى إظهار ما عنده بأجمل صورة وأرقاها، ولو أدّى ذلك إلى التصنّع والتزيّن بأدوات إخفاء العيوب والشوائب؛ وبالتالي لا يُظهر غير ما أراد الآخر إظهاره، وهذا يقلّل من إمكانية تمييز الكمال الواقعيّ عما عداه.
وانطلاقاً من المقولة السائدة «لكلِّ جديد لذّة»، فإنّ الباحث عن شراكة زوجيّة قد يكون خاضعاً لوهم ما يراه جديداً من سلوك الآخر وأقواله وتصرّفاته؛ وذلك يجعله في غفلة عن تزويد الإدراك والعقل بما يُشكِّل قاعدةً للحكم بالميل أو النِفرة؛ ومن هنا يُقال: «مرآة الحبّ عمياء». وهذا كلّه يقلّل إمكانية تولّد الحبّ الحقيقيّ قبل الزواج، إذا لم نقل بانعدامه لفقد شرطه وهو «المعرفة».
 أمّا بعد الزواج فيسقط كلّ قناع، ويظهر الواقع من المزايا والخصائص، وهنا يتولّد الحبّ حقيقة أو يتحوّل وهمُ الحبِّ الذي كان سابقاً إلى هشيمٍ تذروه رياح عين البصيرة؛ لذلك تجد من كانا مضربَ مثلٍ في الانسجام والحبّ قبل الزواج كيف وصلت حالهما بعد فترة قصيرة من العيش المشترك المنزّه عن «ماكياج» السلوك إلى طلاق، ونزاعٍ، وشقاق.
لذلك، فإنّ حقيقة ما يحصل قبل الزواج إنّما هو إعجاب يحسبه الظمآن حبّاً؛ على أنّنا لا ننفي الإمكانيّة العقليّة لحصول الحبّ قبل الزواج فيما إذا توافر شرطه، أي المعرفة الواقعيّة، وساد الصدق كلّ السلوك والتصرّف، ولكن ما ذكرناه من تولّد الحبّ بعد الزواج هو الحكم على الغالب وفق ما نشاهده في الواقع. 

الحبّ وسيلةٌ أم هدف؟
من العبارات الرائجة لتبرير تأخير الزواج مع وجود المناسب قولهم «لم يهتف القلب بعد».  وهنا نسأل : هل  الحبّ وسيلة أم هدف؟
في الحقيقة، إنّ الحبّ ليس هدفاً بذاته، بل هو وسيلة لتحقيق السّعادة في الحياة الزوجيّة، من هنا قال تعالى: Nوَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةًM [8]، فقد جعل الله السكن غاية الزواج. أمّا
Nالمَوَدَّة وَالرَحْمَM  فإنّهما عاملان لتحقيق ذلك السكن، وبالتالي يصبح الحبُّ وسيلةً لضمان بيتٍ زوجيّ سعيد، وإنّ تأخيرَ تشكيل هذا البيت بحجّة انتظار الحبّ هو تفويت للهدف على حساب الوسيلة والغاية. 

في قانون الحبّ...
في قانون الحبّ لا بدّ من «حفظ المراحل»، فالحبُّ  أمرٌ لا يولد ناقصاً؛ الحبّ كالهلال، لا يولد إلا بعد اكتمال دورته، وفي شِرعة الحبّ وقانونِه يجب حفظ المراحل، ومن الخطأ تحويل فترة التعارف إلى حبّ أو الاكتفاء بمشاعر الاستحسان الحاصلة فيها على أنها حبّ ومودّة، علماً  أنّها فترة تؤسس للحبّ، وهي ليست حبّاً.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ المطلوب في مرحلة التعارف هو دراسة شخصيّة الآخر بما ينسجم مع الحكم الشرعيّ والبحث عن نقاط الالتقاء وحمايتها، وعن نقاط الافتراق واحتوائها، كي لا تتحول إلى عثرة في مسار السعادة. وهذا يقتضي وعياً كافياً، ونُضجاً مقبولاً لضمان مستقبل مشرق من خلال الدراية في كيفية اختيار الشريك والاستفادة من فرصة التعارف لفهمه وامتلاك مؤشرات أخذ القرار المناسب.
كذلك فإنّ «صون الحبيب وحمايته» من أصول قانون الحبّ؛ فالحبيبُ يصون حبيبه، يصونه من كلِّ ما لا يليق بطهر الحبّ وقداسته، يصونه من كلّ شيء حتى من نفسه. المحبُّ ـ بحق ـ هو أحرص الناس على عدم تشويه صورة حبّه  بلمسةٍ تنافي عفة الحبّ، أو نظرةٍ لا طهر فيها. كما يحرص المحبّ
ـ قبل تماميّة عقد الزواج ـ على عدم إعطاء شريكه المستقبليّ جرعات غنجٍ ودلال تحُرِّك ما بطن من مشاعر الشهوة والخيال.

------------------------------
[1]- سورة الروم، الآية: 21.
[2]-  الطباطبائيّ، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، (لا ط)، مؤسسة النشر الإسلاميّ، قم، (لا ت) ، ج‏16، ص: 166.
[3]- النراقيّ، محمد مهدي: جامع السعادات، تحقيق السيد محمد كلنتر، (لا ط)، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، (لا ت)، ج3، ص: 109.
[4]- سورة يوسف، الآيات: 30-32.
[5]- سورة يوسف، الآية: 33.
[6]- النراقيّ، جامع السعادات، (م.س)، ج3، ص: 105.
[7]- النراقي، جامع السعادات، (م.س)، ج3، ص: 104.
[8]- سورة الروم، الآية: 21.