-----------

مقالة نقدية لقصة ( زهرة بانسية ) للكاتبة مريم ميرزادة

{ سلوى صعب }

مقالة نقدية لقصة ( زهرة بانسية ) للكاتبة مريم ميرزادة

تعد القصة القصيرة إحدى فنون القص الرائجة في العصر الحالي، إلى جانب الرواية، وتزخر المكتبة العربية بالآلاف من المجموعات القصصية التي تقدم تحت عنوان «القصة القصيرة». ولكن هل كل ما تخطه أنامل كتابها يصح أن يصنف كقصة قصيرة من الناحية الفنية والتقنية؟

هذا المقال سيحاول الإجابة ضمنًا على هذا السؤال، في معرض قراءة نقدية لقصة «زهرة بانسيه» للكاتبة مريم ميرزاده.


 اختلف النقاد والأدباء في تعريف القصة القصيرة: فمنهم من عرّفها استنادًا إلى زمن قراءتها القصير نسبيًا، فهي قصة تُقرأ في جلسة واحدة، ومنهم من عرّفها حسب عدد صفحاتها، وبأنها لا تزيد عن ثلاث إلى أربع صفحات، ومنهم من تجاوز هذا التعريف حاسبًا أن القصة القصيرة لا تهتم بالتفاصيل كالرواية، ولكنها تهتم بحدثٍ معيّنٍ في زمنٍ محدّدٍ ومكانٍ أو مجموعةٍ من الأمكنة المحدودة.

القصة القصيرة فنٌّ قائمٌ بحدّ ذاته، فهي استعارت من الرواية سرديتها وبناء الزمان والمكان فيها وتَشكّل شخصياتها، إلا أنها تميّزت عنها بتقنية تقيّدها بحدث وحيد، كما تقيّد زمانها بالقِصَر، وأمكنتها وشخصياتها بالقِلّة. 

تعد القصة القصيرة فنًّا أدبيًا حديثًا ظهر بداية القرن الثامن عشر، وهو فن يختص بتقنيةٍ صارمةٍ بعض الشيء، فهي لا تجيب فقط عن الأسئلة الثلاثة المعروفة عند تناول حدث ما: كيف ومتى وأين؟ بل يجب أن تجيب عن سؤال رابع مهم وهو لِمَ وقع؟[1].

وفي تعريفٍ جيّدٍ للقصة القصيرة لفرانك أوكونور الناقد وكاتب القصة الإيرلندي: «ليست القصة القصيرة قصيرةً لأنها صغيرة الحجم، وإنما هي كذلك لأنها عولجت علاجًا خاصًا، وهو أنها تناولت موضوعها على أساسٍ رأسي لا أفقي، وفجّرت طاقات الموقف الواحد، بالتركيز على نقاط التحوّل فيه... والذي يفجّر نقاط التحوّل في الموقف يتاح له الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة، ماثلة للعيان». ويضيف أوكونور بأن «أسلوب القصة القصيرة يولع بالحاضر ويرتفع عنه في الوقت ذاته، وذلك على نحوٍ يجعله يرى الماضي والحاضر متزامنين وواضحين بالقدر ذاته»[2].

وفي مقارنة القصة القصيرة مع الرواية يمكن القول إن الرواية تعتمد في تحقيق المعنى على التجميع، أما القصة القصيرة فتعتمد على التركيز، ويمكن أن نشبّه الرواية بالنهر من المنبع إلى المصب، أما القصة القصيرة فهي دوّامةٌ واحدةٌ على سطح النهر، فهي تكتفي بقطعٍ من حياة الشخصية، بلمحةٍ منها، بموقفٍ معينٍ أو لحظةٍ معينة، تعني شيئًا معيّنًا، فتسلّط الضوء عليها بحيث تنتهي بها نهايةً تنير لنا معنى هذه اللحظة، ولهذا أطلق بعض النقاد عبارة «لحظة التنوير» على النهاية في القصة القصيرة، تلك اللحظة التي تخلق حالًا من الدهشة عند المتلقي، وبهذا المعنى أطلق على نهاية قصص تشيخوف مثلًا النهاية القنبلة، والنهاية الملتوية عند موباسان، أو النهاية المفتوحة عند كثيرٍ من كتّاب القصة القصيرة في الوقت الراهن.

تقص علينا «زهرة بانسيه» لمريم ميرزاده قصة حدثٍ حصل ذات يوم في حياة «ميريلا»، الشخصية الرئيسة في القصة، صبية تعيش في مدينة «أصفهان» الإيرانية، انتقلت إليها مكرهةً مع العائلة منذ عامين. ورغم اتصاف أصفهان بنصف العالم لجمالها، إلا أن ميريلا تفضل عليها العاصمة «طهران»، لأنها مرتع الطفولة وتفَتُّح أزهار الصبا و... الحب الأول. ميريلا تحيك السجاد الصوفي، تهاب الأماكن المغلقة، وتهوى الرسم، مواصفات كافية لتشكّل في ذهن القارئ صورةً تضج بالحياة.

زمن القص في القصة القصيرة قصير؛ لأنها قصة الموقف الواحد، أو الحدث الواحد، الحدث في قصة «زهرة بانسيه» هو الأزمة القلبية التي ألمّت بالشابة ميريلا، وأدخلتها في غيبوبة، صحيح أن الغيبوبة طالت لسنةٍ ونصفٍ كما اكتشفنا في نهاية القصة، إلا أن الموقف الذي عبّرت عنه القصة حدث في يوم واحد وفي مكان واحد في غرفة ميريلا المطلة على الهضبة الخضراء. ولكن زمن السرد اتسع ليعود بنا إلى الماضي البعيد، إلى الطفلة ميريلا التي كانت تملأ جدران المنزل بالرسومات، ثم إلى الماضي القريب، إلى ما حدث في طهران، إلى لقاء الصدفة بداوود عند البحيرة الصناعية، حين أهداها كتاب الشعر. هذا العَود إلى الماضي أو ما يسمّى بتقنيّة الاسترجاع في القصة ضرورة ملزِمة للكاتب أحيانًا وخصوصًا مع القصة القصيرة. وذلك للإضاءة على جوانب من حياة الشخصية، تساهم في فهم الحدث أو في تكثيفه للوصول إلى «نقطة التنوير» التي تشكل خاتمة القصة.

اعتمدت الكاتبة تقنية «الحذف الزمني» قبل أن تنهي قصتها، وهي تقنية يُغَيِّب الكاتب فيها فترةً زمنيةً من حياة الشخصية، لا تكون مؤثرةً في سير أحداثها: ميريلا راقدة في غيبوبة منذ سنةٍ ونصف، ميريلا تعود إلى الحياة تدريجيًا، يتحرّك الجفن، تتعرّق الجبهة، وميريلا تبتسم.

وتبقى الإشارة إلى زهرة بانسيه أو زهرة الثالوث حسب الترجمة العربية، التي استعارتها الكاتبة اسما لقصتها، هذه الزهرة التي حضرت في مختلف مفاصل القصة، لم تخترها الكاتبة عبثًا، فاسمها الإنجليزي  pansyمأخوذ من الكلمة الفرنسية pensée وهي تعني «التفكير”، وهي تتميز بقوة التحمل لمختلف ظروف الطبيعة القاسية، وبعض معانيها تفيد بالتذكر. لقد شكّلت زهرة بانسيه الحافز الذي أعاد ميريلا إلى الحياة، لا سيما أنها كانت هديّة الحبيب.

«زهرة بانسيه» قصة قصيرة، استفادت كاتبتها مريم ميرزاده من تقنيّات هذا النوع القصصي لتقديم قصتها، فالحدث واحد تمثّل بإصابة ميريلا بأزمة قلبية، مهّدت الكاتبة لهذا الحدث عبر سرد مكثّف، اتّسم ببعض الإطالة التي تتجافى عادةً مع هذا النوع القصصي، إلا أنها لم تُنقص من القيمة الأدبيّة للقصة. اعتمدت محدوديّة المكان والزمان والشخصيّات التي تمحورت حول شخصيّةٍ رئيسةٍ هي صاحبة القرار، الذي نقل القصة إلى «لحظة التنوير»، حين اتخذت ميريلا  قرارها بالعودة إلى الحياة لتُنهي قصةً اتّسمت برومانسيّة ناعمة، وصور جميلة وذكريات حالمة.

----------------------

[1]* ـ زهرة بانسيه قصة نشرت في العدد الأول من مجلة مع الشباب.

- رشاد رشدي، فن القصة القصيرة، دار العودة، بيروت، ط 3، 1984، ص 29.

[2]- فرانك أوكونور، الصوت المنفرد، ترجمة محمود الربيعي، المركز القومي للترجمة، طبعة خاصة، القاهرة، 2009، ص 8.