-----------

يشبه المنزلُ مصنعًا بإمكانه إنتاج أجمل ما في الحياة كلها: الحياة نفسها. صحيح أنه يشبه المصنع، لكنه مصنع ذكيٌّ وعاطفي، له عقل وقلب وروحٌ. ويقوم علم التربية على قواعد حقيقيةٍ وحيويةٍ جدًا، تحاول تطوير محركات هذا المصنع، وصياتنها، والسهر على جودة العملية التربوية التي تحصل في المنزل.
يؤكد علم التربية الأسرية على ضرورة مراقبة الوالدين لسير العملية التربوية في المنزل، وهي عمليةٌ ذات طابعٍ عقلانيٍ وواعٍ، إذ يحتاج الأمر دائمًا إلى الانتباه على الأسس المنطقية والعقلية التي ينبغي أن تسير في ضوئها العملية التربوية، وكذلك محاولة تطويرها وتحسينها ورفع المعيقات الطارئة من أمامها كي تسير بانتظام.
إذًا، تحديد العوائق ومحاولة رفعها بشكل واعٍ ومدروس هي خطوةٌ دائميةٌ في حياة الأسرة.
سنتناول في هذه المقالة مشكلة وجود تناقضات بين الوالدين داخل الأسرة، وسنقوم بشرحهما وتوضيح أسبابهما، وكيفية التخلص منهما.

الاختــــلاف فــــي الآراء التربوية بين الأم والأب

أحيـانًا، قـــــد يخـــــتلف الأب والأم في تشخيص “الجيد» و»السيئ” من بعض السلوكيات أو القيم. فعلى سبيل المثال، قد يأتي الأب ليقول للولد: «أنت لم تنل علامةً عاليةً في مادة الرياضيات». هنا، الأب يشخّص أن حصول الولد على علامةٍ عاليةٍ في الرياضيات هو أمرٌ هام بالنسبة إليه كأب. قد يقوم الولد بالنظر في عيني أمّه مستدرجًا إياها إلى الفخ العاطفي المعتاد. فتحاول الأم بدورها – خصوصًا مع كون الولد قام باللعب على الوتر العاطفي، وإظهارها بمظهر المنقذ والشفيع له – أن تلمّح أو تصرّح للأب فتقول له: «لا تضغط عليه، في نهاية الأمر الولد يحاول جهده»، وهكذا سيُصرّ الأب على موقفه لأنه مضطرٌ للدفاع عن «قيمةٍ” تربويةٍ يعتقد أنها صواب (نيل العلامة العليا)، وستضطر هي كذلك للدفاع عن قيمةٍ تربويةٍ أخرى (عدم إجبار الولد على فعلٍ يكرهه). في الحقيقة، المستفيد الأول والأخير من هذه الحالة، هو الولد! بينما سيقع الأب والأم في مشادةٍ كلاميةٍ أو توتر في أجواء المنزل.

حسنًا، ما هي المشكلة هنا؟

إن سوء تقدير الأهل لذكاء الطفل، وقدرته على صناعة الظرف الخاص به من أجل تخلصه من مشكلةٍ ما أو حالةٍ «سيئةٍ” يعاني بها، ستوقع الأهل والطفل في مشاكل كثيرة. يقول Patrick Davies في كتابه «Marital Conflict and Children: An Emotional Security Perspective”: «عندما يستخدم الآباء مرارًا وتكرارًا استراتيجياتٍ معاديةً مع بعضهم البعض، فقد يصاب بعض الأطفال بالذهول والقلق واليأس. وقد يتفاعل آخرون مع الغضب، فيصبحون عدوانيين ويطوّرون مشاكل السلوك في المنزل وفي المدرسة. يمكن للأطفال تطوير اضطرابات النوم والمشاكل الصحية مثل الصداع والمعدة، أو قد يصابون بالمرض بشكل متكرر. ويمكن أن يتداخل إجهادهم مع قدرتهم على إيلاء الاهتمام ما يسبب خلق مشاكل تعليمية وأكاديمية في المدرسة. فمعظم الأطفال الذين ينشؤون في بيئات الصراع المدمر يواجهون مشاكل في تكوين علاقاتٍ صحيةٍ ومتوازنةٍ مع أقرانهم. حتى أن علاقات الأخوة تتأثر سلبًا.

ففي عام 2002، بحث الباحثون رينا ريبيتي، شيلي تايلور، وتريزا سيمان في جامعة كاليفورنيا في 47 دراسةً ربطت تجارب الأطفال في بيئاتٍ عائليةٍ محفوفةٍ بالمخاطر بقضايا لاحقةٍ في سن البلوغ. ووجد الباحثون أن أولئك الذين نشؤوا في منازلَ ذات مستوياتٍ عاليةٍ من الصراع يعانون من مشاكل صحيةٍ بدنيةٍ أكثر ومشاكل عاطفيةٍ ومشاكل اجتماعيةٍ في وقت لاحق من الحياة، مقارنةً بمجموعات السيطرة. كما أن البالغين من هؤلاء كانوا أكثر عرضةً للإبلاغ عن مشاكل الأوعية الدموية والمناعية، والاكتئاب والتفاعل العاطفي، والاعتماد على المواد المخدرة، والشعور بالوحدة، والمشاكل مع العلاقة الحميمة.
وعلى كل حال، ينبغي هنا على الأهل أن يدققوا كثيرًا في القيم التربوية المشتركة التي سيقومان دومًا بتطبيقها أو محاولة تربية الاولاد عليها.
أسباب التناقض بين الوالدين:
قد ترجع أسباب الخلاف بين الوالدين على القيم التربوية إلى جذورٍ عدة:
- الاختلاف في المستوى الثقافي والأكاديمي بينهما.
- الاختلاف في التجربة الحياتية والمواقف الخبروية التي تعرض لها أحدهما.
- التاريخ العائلي الخاص بأحدهما قبل الزواج، وتأثير ذلك على تقييمه.
- الخلفية الفكرية والعقائدية والقيمية التي تشكل خلفية تصرفات أحد الزوجين.
- الضغط الحياتي اليومي ونوعيته.
- مشاكل صحية ونفسية خاصة.
وهذه الأسباب، مضافًا إلى الحاجة الحقيقية إلى سبرها واكتشافها من قبل كلا الوالدين، فهي كذلك بحاجةٍ إلى البحث والتشاور بينهما بكل صراحة.

فعلى سبيل الإشارة، في المثال أعلاه، قد تشكّل قيمة «الربح السريع» قيمةً عليا عند الأب الذي نشأ في بيئةٍ تحبّذ تحصيل الربح المادي بأسرع وقت وأقل كلفةٍ وخسائر، وبالتالي فإن تأخر ولده في الدرس عبارةٌ عن استثمارٍ اقتصاديٍ فاشل. وهذه القيمة التربوية قد لا تكون مورد اتفاق مع زوجته، وبالتالي تؤثر على حكمهما في هذه القضية معًا.  وهنا، يكون الولد هو الضحية.

الطفل لا تمرُّ الأمور أمامه مرور الكرام، بل كلّ ما يحدث أمامه يشكّل بالنسبة إليه إما تهديدًا سلبيًا أو فرصةً إيجابيةً بالنسبة له.
خطوات تساعد في الحل:
تقول غلوكوفت وونغ (Glucoft Wong) إن المنزل هو أرض التدريب للحياة الحقيقية: «دائمًا هناك عيون صغيرة تراقب، وآذان صغيرة تستمع».

هنا خطوات ممكن أن تؤسس لحلول:

توفير الدعم الدائم: اجعلها قاعدةً أنه إذا كان أحد الوالدين يقوم بتنيظم شؤون الأطفال، على الوالد الآخر أن يقوم بدعمه، حتى لو كان لا يوافقه. إذا كنت لا تفعل ذلك، فإن ذلك سوف يظهر لطفلك أن والديه ليسا فريقًا موحدًا، وهذا ما سيقوض سلطتك.

اترك الأكثر حماسةً لحل المشكلة يقوم بدوره: من الذي يشعر بقوة أكبر حول القضية المطروحة؟ إذا كنت أنت وزوجك تحملون وجهات نظر مختلفةً حول شيءٍ ما ولا يستطيع أحدكما الوصول إلى الجانب الآخر من القضية، فإن الذي يشعر أكثر بحماسٍ حوله ينبغي أن يقوم هو بالمهمة.

تحدث عن قرارات التربية والتنشئة عندما تكون هادئًا: عند الاستماع بهدوء إلى وجهة نظر الآخر دون أن تكون انتقاديًا، ستكون عندك فرصة أفضل في التأثير على قرار زوجك. تذكر، ليس هناك شيء اسمه «الحقيقة المطلقة» دومًا في التربية المنزلية، اللهم إلا في مواضع محدودة، وبالتالي فإن هناك العديد من الطرق للتفكير في الأشياء، وليس فقط طريقتك.

كيفية الاستماع. فهو يساعد الأزواج على إعطاء بعضهم البعض بضع دقائق، والحديث فقط عن سبب هذه القضية المعينة. كل شخص لديه رغباته الخاصة، وتوقعاته الخاصة، وتقاليده الخاصة، ورؤيته الخاصة للمستقبل. عليك أن تتحلى بالقدرة على قضاء بضع دقائق تخُصّها لسماع الشخص الآخر، وأن تكون قادرًا على العثور على أرضية مشتركة. يمكنك أن تقول: «ماذا يمكننا أن نفعل للتفاوض على هذا؟» أو «أسمعك. الآن أنا أفهم لماذا هذا مهم جدًا بالنسبة إليك. لا أشعر بالقوة، ولكنني سأؤيد قرارك». والأهم من ذلك، سوف تعرف في قرارة نفسك أنك قد سمعت!

الاتفاق المسبق على خطوات الحل: من المهم جدًا أن يقرر الوالدين، وإن وقعا في المشكلة أكثر من مرةٍ ولم ينجحا، أن يستفيدا من هذه التجربة في فهم منطق الإشكال، وكيفية سيره، وآثاره السلبية عليهما وعلى الأطفال. وبالتالي، يتفقان على أنه في اللحظة التي يظهر فيها اختلاف بينهما على أسلوبٍ تربوي، أو قيمي، أو تقييمٍ لعملٍ قام به الطفل، فإنّه من المهم جدًا أنه إذا بادر أحد الطرفين إلى توجيه الطفل ومساعدته أو إرشاده إلى ما ينبغي أو ما لا ينبغي فعله، وكان ذلك مخالفًا لما تتوقعه، فلا تقم بمقاطعته أمام الطفل. وكذلك، لا تغضب، ولا تظهر الامتعاض. لأن ذلك سيشوش فكرة الطفل عما يجب عليه فعله: فمن هو على الصواب بينكما؟ الأم أم الأب؟ وكذلك إذا وضع أحد الوالدين قوانين تتعلق بالنظام المنزلي، دون اتفاق مسبق، فلا يصح أن يقوم الطرف الآخر بالاعتراض علنًا، وبطريقةٍ قاسيةٍ وغير مبررة، لأن ذلك من شأنه أن يسيء إلى فكرة النظام كذلك. ليس عجبًا أن نجد الأطفال فيما بعد وقد أصبحوا شبابًا لا يستطيعون التقيد بأي نظام، لأن النظام في خلفيتهم الفكرية أمرٌ قابل للكسر والتجاوز دومًا.