-----------

زهرة بانسيه

{ مريم ميرزاده }

زهرة بانسيه

"لا تجزع من جرحِك.. وإلا فكيف للنورِ أن يتسلّلَ إلى باطنِك..؟ "

جلال الدين الرومي

جلست ميريلا ذاك اليوم، في غرفتها ذات الشرفة المطلة على الهضبة الخضراء في مهريز، تحيك أول سجادةٍ صوفية. الفصل شتاء، الشهر ديسمبر، السنة ليست مهمة. للقارئ رغبته في تدوين لحظة وجود الشخصيات وتأريخ أحداث هذا اليوم.                                           

 البيت كبير، غرفه متعددة، لكنه كان نوعاً من محاولة إرضائها، أن اختاروا لها هذه الغرفة، يعرفون تَوقَها الخاص للشرفات.  تسبب لها الأبواب المغلقة تسارعاً في دقات القلب وشيئاً ما يسمونه رهاب الأماكن المغلقة. لكن واضح أن البشرية سارت قبلها وكل من كانوا يعانون من ذات مشكلتها لازالوا أحياء. شيءٌ ما يبدو أنه ولد معها، يشعرها بتآمر الجدران على أنفاسها فقط، وقد تنقض عليها منتصف الليل وهي راقدة، من يدري! ميريلا لا تحب الجدران، لطالما رسمت عليها بيوتاً بقرميد أحمر وقمماً خضراء وأنهاراً .. وورداً. لكن الجدران لا تتخلّى عن صلابتها! رغم أنها بعد انتهائها من رسمها تحدق إلى الجدار بحنان، وتتبسّم بخيبة. لطالما نالت من اللوم ما كان وفيراً من والديها وهي صغيرة لإفسادها سلامة الجدار.. لو كانت مخطئة أو مجنونة كما تشعر بانطباعهم ونظراتهم، لكان السلطان عباس الصفوي أكثر المعقدين نفسياً، ولكان الفنان الذي رسم تلك اللوحات المخلدة فوق جدران "جهل ستون"*  وأسقفها .. كبيرَ مختلّي أصفهان عقلياً!                         

لا بأس، ستواجه الكثير من شبه هذه الأفعال، إن رغبت في المضيّ خلف أحاسيسها.. هذه الخيوط الذهبية المغزولة تحت جلدها، والتي تجعل لها حواس إضافيةً لكل حاسةٍ طبيعية من الخمس المعروفة. كما لكل كوكبٍ سيّارٍ أقمارٌ عديدة. تدور أحساسيها حول حواسها.. المجرةُ روحُها!    

تسارع ميريلا نحو النوافذ والشرفات مذ كانت طفلة.. ليعود المدى أمام عينيها لا متناهياً. هي تحبّه هكذا! هكذا تكون في سلامٍ مع أفكارها التي تشبه كرةً من صوف تعبث قطةٌ مشاغبة بها، القطةُ قلبُها! 

منذ عامين اختارت الانضمام الى معهد تعليم حياكة السجاد.     

ميريلا منذ قدوم اسرتها من طهران،  بدأت بتعلم الحرفة. تشغلها قليلاً عن التفكير بنقمتها على والديها بسبب خيارهما اعتزال حياة العاصمة. لم يكن سهلاً عليها اقتلاع جذورها التي يراها أبواها أمتعةً وكتباً ليس إلا..  من ذاك المكان. حتى أنها لا تدري ما إذا أتت بكل أغراضها.. هناك كتابٌ مفقود منذ قدومها لم تعثر عليه. لكنها تستبعد احتمال تركه هناك، وعدته حين أهداها داوود قصائد سهراب المختارة، أن تحتفظ به دائماً. تتجاهل أمها أمر الصناديق الكرتونية التي لاتزال في قبو البيت. الصناديق تحوي كراكيب لكن ميريلا شبه متأكدة من أن الكتاب هناك! لحسن حظها أنه لم يكتب اسمه أو أي إهداءٍ على صفحته الأولى، لهذا لا تقلق إذا عثرت أمها عليه. قرأته عدة مرات. ليست القصائد مهمة. لكنها تخاف إذا طال غياب الكتاب، أن يتلاشى في غبار الورق، ذاك الشيءُ الذي يشبهه، تلك الذرّات التي كانت تخاطبها من بين السطور.. لازالت تفكر في جنسها، ما نوع ذاك السحر الأخّاذ. هل  يغيب إذا طال عمر الكتاب؟ أو عمرها؟                                                             

حين يكون الطقس ملائماً، تزيح الستارة الرقيقة الزهرية، تفتح نافذة الشرفة لتحمل لها الرياح الغريبة عطراً تعرفه، فتنظر إلى أسفل وتبتسم لشتلات زهور البانسيه التي زرعت بذورها وانتظرت ليحصل ما يحصل الآن..                                                                   

 ميريلا تبتسم لزهور البانسيه كما تبتسم للجدار المنقوش، كلما قرأت لسهراب تبعثرت روحها كوردةٍ جفت بين الصفحات.. رغم انه لم يهدها واحدة. تبتسمُ وهي تطرق المشط الحديدي فوق غرزات النسيج داخل عقد السجادة على النول الخشبي. علّمتها جدّتها أن تستغل جلوسها الطويل للحياكة، بالتسبيح.. أعجبتها فكرة أن تذكر الله مع كل عقدةٍ وغرزة..                                            

هو هنا بكثافةٍ في ذاك اليوم. تضربُ المشط الحديدي أكثر من اللازم، لكن صورته لا تتلفها الضربات. الذاكرة تطرق هنا بقسوة.. بلا رحمة. ميريلا تبتسم.. لا تشعر بأصابعها! رغم أن دقات قلبها تبدو في تراقصٍ مع حركات المشط.  يتوازى خط الغرزات تماماً. الأفق الذي تأمّله معها عند غروب ذاك اليوم يشبه هذا الخط الصوفي. لم يكن موعداً، بل صدفةً مرغوباً بها جداً، عند البحيرة الإصطناعية في طهران..  تَحيكُ فيروح داوود ويجيءُ أمامها.. تماماً كسؤالها المهجور عن حقيقة قصتهما. لا قيمةَ للخيال في حياكة نسيج الصوف. القطعة ستكتمل بالعمل، بالصبر. على ميريلا أن تثق، بأنّ الواقعَ خبزٌ والخيالَ تضوُّرٌ.

الآن ومذ عادوا إلى هنا، أمست هذه الشرفة ركنَ لقاءاتها الحافلة بأحاديث لم تكن.

تدعوها أمها: عندي مشوارٌ إلى البازار الكبير، عليكِ أن ترافقيني، الطقسُ سيعجبُكِ جداً!

ترفض ميريلا: لديّ ما أقوم به أمي. هاتِ لي فقط معك ذاك السوار النحاسي من حجرة الشيخ عرب. أتذكرينه؟

تكف الأم عن الإصرار. ميريلا لن تبدّلَ قرارَها. رغم أن الشيخ عرب لمّا قال لها إن النحاس يناسب مواليد برجها، غيّرت رأيها في مقاطعة الأبراج.. وعادت تلتمس قراء الطالع في البازار وقارئات الكف.

بقيت ذاك اليوم وحدَها. ترغب في تحديد صورة السماء في إطارها الصغير. زهور البانسيه تعزف لها أسفل الجدار سيمفونيةً تشبه "الربيع" لفيفالدي"..  من الشرفة، كونُها أكبر هنا.

ميريلا تبتسم في شرفتها. عيناه في خضرة الشجرِ البعيد أمامها. صوته في أذنها يهمسُ مع الصمت الذي يصفرُه الريح. قد يكون الآن نطقَ ببضعِ كلماتٍ هناك. مثل تلك التي لم يقلها أبداً.. فسمعته..  ميريلا تبتسم كابتسامتها عند البحيرة وهو يختلقُ أدباً اجتماعياً يتقرب منها به.   ربما كان مهذباً في لقاء الصدفة فقط. ربما كلّ ما كان من صنيعةِ رأسها.

 ميريلا اختارت أن تبتسم. من الشرفة، يبدو طيفُه أوضح. سيمرُّ وجهُه كما تمرُّ الغيوم. ستنتظر. تقولُ جارتُهم إن وجهَ ميريلا يبعث على السلام والطمأنينة. تفكر ميريلا بموضوعيةٍ تشبه قناعتها أنّ الوجه مرآةُ الداخل، أيّ سلامٍ في وجهي؟! . رغم ذلك ميريلا تبتسم للمرأة كل يوم. تماماً كابتسامتها للسقف في غرفتها أمس، بعد خروج الجارة واستلقاء ميريلا في سريرها محدقة. ليس لأنها شاردة الذهن. لكن أنوثتها تغمرها كلما شخصت لها ملامح داوود في السقف.. أو خيالها.. لمَ تحبُّ أن يسمعَها؟

هو الآن يصغي، وإلا كيف لها أن توجّهَ صرختَها فجأةً إلى ما خلفَ حنجرتها.. إلى عمقها الذي يناديه ملتمساً: داوود.... داوود..!

ولا تأتيها الراحةُ إلا عندما تشعر بقفصها الصدري استحال إلى حقلٍ من البانسيه البنفسجي. لا بدّ أنه سمع! يا لخجلتها! تحمرّ وجنتاها. ذات الشعور اعتراها يوم وضع بين يديها المرتعشتين ديوان سهراب. لا يمكن لكل ذاك الشيء أن يكونَ وهماً. يستهلُّ ثغرُها. تتدحرج هذه المرةَ دمعةٌ على أهدابها. ثم تلامس الوسادة. تبتسم أكثر. كأنها تبصرُ أخيراً دمعته..

بعد أقل من خمسةَ عشر دقيقة.. يضيقُ صدرُها. ميريلا منزعجة، متضايقة. من الصرخة؟! من الدمعة؟! من حقل الزهور؟! تحاول أن تعرف وتستعيدَ سلامَها. تفشل! الضيقُ يتزايد. أنفاسُها تتخبّط. ألمٌ في وسط الصدرِ يهزّ جسدها المستلقي. تعجز عن الحراك. ولا أحد هنا.

يواصل الطبيب إحداث الصدمات الكهربائية فوق الصدر. بعدما رفع باقة البانسيه البنفسجي عنه. متوجهاً إلى الممرضة:

من وضع الباقةَ هنا؟

الممرضة: شابٌ جاء وحيداً لعيادتها، ثم خرج مسرعاً

حسناً فلتضعي هذا النول الخشبي خارج الغرفة.. يبدو أنها تستعيد وعيها، الإشاراتُ إيجابية.

دكتور منذ أيامٍ كانت والدتها تطرقُ على النول الخشبي هنا، لاحظتُ حركةً طفيفةً في الأصابع. رغم أنّ الأم المسكينة تطرق فقط بالمشط الحديدي. ولم تحك ولا عقدةً منذ يوم الحادث .

الحادث كان خطيراً.. اصطدامها كان جامحاً عند الرأس.

لكن زيارة هذا الشاب كانت غريبة. جلس عند سريرها يبكي. بكى كثيراً. يبدو أن الدموع تخرج من عينيها. أنظر إلى هنا دكتور!

ههههه نعم أنا من المؤمنين بأن مريض الكوما يشعر بالأمور التي يحبها.. فلتتصلي بأسرتها..

المسكينة هنا منذ عامٍ ونصف. والدتها تأتي كل يوم برفقة جارتهم. ستفرح كثيراً بهذا الخبر.

الممرضة تبكي متأثرة.. وهي تنزعُ عن معصم ميريلا السوار النحاسي الذي حفرت عليه آياتٌ من القرآن. سوف تُجرى لها سلسلةٌ من الفحوصات اليوم.

تمسح الممرضة الدمعة. تسرح لها شعرها. تمسحُ جبينها بعطر المسك.

ميريلا تتنفس. يتحرّكُ الجفن. تتعرّق الجبهة.  

البانسيه البنفسجي قربَ رأسها.

و ميريلا تبتسم.